2008/10/05

كلمة العدد 14

بعد 25 شهراً من تاريخ صدور أول عدد من مجلة يورد استطعنا أن نصدر العدد الرابع عشر ونحن نخطو بكل ثقة وثبات أول خطوة على أعتاب السنة الثالثة، وخلال هذه المسيرة واجهتنا العديد من الاتهامات الرخيصة والتقولات الباطلة التي كانت في الغالب تستهدف عزيمتنا أو التقليل من شأن يورد – الوطن وقد كان العديد من أصدقائنا الملتفين حولنا ينصحوننا بألا ننجر إلى تلك السجالات التي كانت تولد في الغالب وهي عقيمة، ونحن نفهم أنها محاولات تهدف إلى إبعادنا عن فضاء الإبداع صوب حقول الجدب التي أوجدها البعض لنفسه في الحقبة الذهبية من عصر القيل والقال الذي نعيشه رغما عنا، حتى صار البعض يتصورون أن تدبيج المقالات اللاذعة التي لا يخلو أي سطر فيها من النقد الجارح المغلف باعتناء متناه إنما هو الإبداع بعينه ، ولا يدري إن من يرتضي سلوك هذا الدرب أنما يفعل ذلك وهو يقدم دليلا دامغا على جفاف أدبي وخلقي مؤسف . والطامة الكبرى هي أن يتوهم هذا بأن ما يقوم به هو ضرب من النضال أو البطولة ويستحق الثناء من رؤسائه.
في الحقيقة لم نكن ننوي خوض مثل هذه المواضيع ولكن مساحة الممنوع والمسكوت عنه فضلاً عن الكتابات التي تطالعنا بين الحين والآخر هي التي تدفع حتى التماثيل الصم إلى النطق ! ولكن نود أن نذكّر هذا الجمع الذي كانت تربطه في السابق علاقات حميمة وصداقات صميمية للغاية ، حتى تحول الأصدقاء والرفاق القدامى إلى غرماء يحاول كل واحد منهم النيل من الآخر. فما الذي حدث!؟ الوسط الأدبي والثقافي هذا هل ضربه زلزال بدرجة (5.1) على مقياس ريختر لينقلب كل شيء رأساً على عقب !
هذا الخراب الأدبي والثقافي لا يمكن أن يتصوره العقل ما لم يكن قد خلفه طوفان أو زلزال ..
نتساءل ما الذي يمكن أن نقدمه من أجل السلام ؟
كيف لنا أن نرفع الحواجز والمتاريس التي وضعت أمام الأفكار وأمام وجهات النظر المختلفة !؟ ألم يحن الوقت لكي نؤثث سلامنا الاجتماعي ونتقبل بعضنا البعض في هذا العصر الذي كثر فيه الحديث وتشعب عن اتفاق الحضارات وعن نظريات مشابهة.
إنها دعوة لوضع حجر أساس لثقافة السلم والتعايش مع الآخر ..
نحن نؤمن أن ثقافة السلام ستجلب وإياها الكثير من المكاسب لنا.. إنها دعوة مخلصة مرفقة بباقة من الأزاهير من أجل مناقشة هذه الأفكار والطروحات واستنباط الحلول ..
نحن في يورد نذرنا أنفسنا لتحقيق هذا الهدف والسعي من أجله ..
ومن أجل ذلك نقدم للجميع باقة من الورد مع المحبة ..

رئيس التحرير

الشاعر رضا جولاق أوغلو

و مجموعته الشعرية نشيد السلام

كتابة : أنور حسن موسى
منذ الستينات تنازعت مجموعتان أدبيتان على الصعيد الثقافي ، وحاولت كل مجموعة أن تستأثر باهتمام النقاد والصحافة وهما (مجموعة الثقافة الإنسانية) و(مجموعة الثقافة البرجوازية).اهتمت الأولى بتراث الشعوب والمفاهيم ذات النزعات الإنسانية القائمة على الحب والتعايش والعدل ، بينما اهتمت الثانية بالغموض والمبالغة بالفردية قوضت الجوهر الإنساني للأدب ..حاولت المجموعة الأولى التوجه نحو قطاعات واسعة من الشعب ولهذا حظيت باحترامهم، أما المجموعة الثانية فإنها خاطبت أقلية من المثقفين المولعين بالميثولوجيا القديمة والرمزية .على ضوء هذا الصراع بين المجموعتين تجلت غربة الشاعر البرجوازي عن الشعب بينما استقطب الشاعر الإنساني الواقعي اهتمام الأغلبية من القراء الذي يتوقون إلى قراءة كل ما يعبر عن واقعهم وتصور المعني النضالية في دأبهم وكفاحهم ضد كل ما يعيق البناء والنهوض وتحقيق العدل في مجتمع قائم على الظلم والاضطهاد. الشاعر(رضا جولاق أوغلو) في مجموعته الشعرية (نشيد السلام) يؤطر شعره ضمن مجموعة الثقافة الإنسانية فهو غير مغرم بالميثولوجيا القديمة بقدر ما هو مولع بميثولوجيا أمته ..انه يقيس زمنه ومكانه حسب تقاليد بلده تماماً كما فعل الواقعيون ..الشاعر جولاق اوغلو يريد أن يلعب دوراً تقدمياً في حياة شعبه وهو بذلك لا يريد أن يقول إن كل ما هو تعليمي وهادف بائس وفقير على حد تعبير(ت.س.اليوت).
إني حسب معرفتي الشخصية بالشاعر فانه رغم اهتمامه بالثقافة الأوربية مغرم بثقافة أمته وميثولوجيا شعبه، وانه تمكن بجدارة من تقليل التأثيرات الميتروبولوجية في شعره، وتوجه نحو الثقافة القومية يرفدها ويغذيها وينعش المعاني الإنسانية فيها. وانك حين تقرأ مجموعته تحس في الوهلة الأولى بحنين الشاعر إلى الأبدية ..هذا الحنين الذي ينبع من إيمانه بأصالة القيم والأخلاق الكريمة التي امن بها البدائيون ومارسوها في حياتهم فهو يدعونا إلى الاتفاق معه بان الأسلاف كانوا أفضل منا لأنهم كانوا مخلصين فرحين شجعان يعٌتمد عليهم ،بينما نحن المتمدنون فقلة قلية منا يتصفون بهذه الصفات ، ولعل جولاق أوغلو من أولئك القلة القليلة.
أما المفهوم الثوري للشعر لدى جولاق أوغلو فهو يتجسد في رفضه للمنطق البرجوازي للثورة الذي يفصل بين ثورة الشعر والإنسان .. انه يدعو إلى الحب والصوفية الحقيقية والتوازن والتواضع والصدق مقابل البغض للهلوسة والتعالي والادعاء ويقول إن الحب الحقيقي لا ينبع من خلال المثالية الكاذبة، الحب في نظر الشاعر هو الحب الذي يجيء مع الثورة ولا يرفع رايته وسط الخراب والفوضى ..انه يدعو الشعراء إلى الابتعاد عن حضيرة السلطان ويدعو في أكثر من قصيدة في مجموعته، وهي تضم أكثر من ثلاثين قصيدة الى نبذ العادات والتقاليد البالية التي تتحكم بالمجتمع ، ويرفض الأنانية وكل صفات الرذيلة .
شعر جولاق اوغلو وان كان لا يساهم في خلق ثورة شعرية الا أنه يدفع بالشعر الى خندق آخر وهو الخندق الاجتماعي ..انه يخلق ثورة اجتماعية وسياسية شاملة .إذن مفهوم الثورة في الشعر لدى جولاق اوغلو هو (أن الثورة لا تلغي دور الشاعر والشعر لا يلغي دور الثورة)..
شعر جولاق اوغلو يمتاز بجمال الوزن والقافية والموسيقى (موسيقى اللغة) إضافة إلى استخدام الميثولوجيا الشعبية والأساطير بلغة تركمانية عصرية نقية لا عن طريق تحويلها إلى أبيات نثرية ، بل الإشارة إلى أسمائها أو مضامينها وتوظيفها توظيفا موفقاً لتكون أداة تغييرية بيد الشاعر، يهدم بها البناء الاجتماعي المغرق بالرجعية والتخلف .
لقد اختار جولاق اوغلو ان يقف مع الآخرين ليحرق معهم ، ولم يقف مثل غيره على (الضفة الأخرى) ليستغرق في (الصلاة الكهنوتية)لان ذلك ليس من صفات أي شاعر حقيقي تحت أي مسميات... لغة الناس ،ولغة أهل الشاعر هي قاموس جولاق اوغلو الشعري فمنها يستقي كلماته الشعرية الزاخرة بالمعنى .. انه في شعره يقترب من مفهوم (ووردزوث) للغة الشعرية الذي كان متحمساً لــ (لغة الناس ).
انظر الى الشاعر في قصيدته الأولى (الغيوم) كيف يتحدث عن الغيوم التي تتجمع في سماء وطنه ولا تنس إن المجموعة قد نشرت في زمن الاضطهاد، فبعد أن يعدد لنا مراحل نشوء هذه الغيوم ،ورحلتها الطويلة وطوافها الواسع في الكون يقرر بأنها تحمل لنا البركة والخير والسعادة كأنه يذكرنا بمطر السياب إذ يتنبأ بقيام ثورة 14 تموز الخالدة .
ولنلق نظرة على قصيدته (الجهود المضنية )التي يشيد فيها بالنضال الدءوب للشعوب من اجل نيل الحرية ، ويعري أولئك الذين يتقاعسون عن النضال الفعلي ويكتفون بالحديث والسفسطة عن الثورة والخلاص فيلاتهم البرجوازية، وعلى متون سياراتهم الفارهة، وفي حفلاتهم و عربداتهم ... وبين دخان سجائرهم الغالية الثمن في المقاهي والبارات (بتوع نضال آخر زمن في العوامات) كما قال الشاعر المصري (احمد فؤاد نجم) وكما وصفهم نجيب محفوظ في معظم رواياته. ها هو الشاعر يقول :
(يقال إن من لا يشمر عن ساعده
ويفتح صدره للرماح
وينازل الموت في ساحة الوغى
لن يذوق طعم الحرية أبداً ).
يعتبر الشاعر رضا جولاق اوغلو من أكثر الشعراء التركمان تعلقاً بالشعر فهو يكاد يتنفس الشعر .. لقد كنت أراه دوماً في سجن أبي غريب أثناء زيارتي لشقيقي المسجون معه ..كان حين يلتقي بي أول سؤال يتبادر الى ذهنه هو: ها صدر العدد الجديد من جريدة – يورد-الوطن ؟ وإذا قلت له نعم يظل يسألني عن القصائد المنشورة فيها وعن أصحابها ، ولا يمل من السؤال ، وكان يتابع ما ينشر من شعرنا وهو في السجن ، ولقد حدثني كثيراً عن أشعاره، وعن ملاحمه الشعرية التي تربو على مئات الأبيات، وحدثني عنه أحد أقاربه من تلعفر وقد جاء لزيارته إن الشاعر الكبير المرحوم (فلك اوغلو) قال مرة : انه سلم راية الشعر في تلعفر الى رضا جولاق أوغلو.

يالجين بللو


و رحيل آخر نورس من أصدقاء المطر
( كن عراقياً ...لتكون شاعراً )
محمود درويش
بقلم : تحسين ياسين

هذا ما يتمناه الكثير من غير العراقيين ، وهكذا كان الكثير من العراقيين شهداء وشعراء ، وبذلك قد نالوا الشرف الرفيع وسلموا من الأذى حتى راقت على جوانب البلاد دماهم . فكان أبن بللو يالجين أحد هؤلاء ، إنه آخر نورس من أصدقاء المطر والسنابل وآخر شاعر من أخوة الرعد والنرجس .
حياة قصيرة – طويلة عشق فيها صوت المدينة وهطول الأحلام كعشق النوارس للمرافئ ولمجيء البواخر ، قصيرة بالسنين وطويلةٌ بالأحزان والمواجع ، قصيرة كالتوقيعة الشعرية ، كحلم طفل وطويلة مفزعة كالكوابيس . كان لا يفكر ألا بصوتٍ عال أشبه بالصراخ لأن الضجيج من حوله كان يحاصره ويطعنه من كل الجهات ، واكتظاظ الأفواه نسج بفضائه خيوطاً متشابكة حائرة فأستطاع أن يحيك بعدها ثوباً أزرق لحلمه الذي تعب من الطيران دونما أجنحة ، هذا الحلم الذي يجوب السماء بأمل وفرح ، ثم يرجع إلى رأسه الذي ليس له جدران ، فالأحلام البيضاء لن تدخل رأساً تحيطهُ الأسوار ، وحلمه الصغير هذا بسيط وصعب في آنٍ معاً .. إنه يتعامل مع المطلق بتناوله للأشياء ومثالياً في ممارسته لحلمه :
لي حلم ..
يطير دونما أجنحة ..يجوبُ السماء ..
بأملٍ وفرح
بعدها ..
يرجع إلى رأسي
الذي ليس له جدران .
هذا الحلم لطالما راوده فألتقطه في غطسته الأولى بأعماق ذاته ولطالما نشر على خيوطه أسرار ذاكرته المعتقة بالأزرق والتي تتدلى كبندول ساعة قديمة لتدق كلماته في صفحةٍ من ديوانيه الاثنين معلنةً عن بدء رحلة زوارقه الشعرية وقد رافقته في رحلته تلك نوارس روحه البيضاء .
هكذا كان حلمه يرقص مع إيقاع ليله ، وأمله أن تطلي النسوة شفاههن بالأزرق محاولاً استفزاز آذانهن بصوت نوارسه كي يعمق لون الأزرق في مخيلة القارئ ويقرب الإحساس به عبر مشهده الدرامي . وكما قلنا أن صوته كان عالياً يحاولُ دائماً ملامسة زرقة السماء تارةُ والبحر تارةً أخرى . لكن طبلة أذن الزمن مثقوبة عند الآخرين يسيل منها الصمت والشتات والحيرة .. هكذا كان يخال على الأقل . أراد أن يقول للآخرين أن القبلة الأبدية تبدأ بشفتين صغيرتين وبعدها بوسع الروح أن تهيج مع تلك الأمواج الثائرة.
نعم ومن يقرأ ديوانيه يتحسس انه ثمة خيطاً أثيرياً أزرق أراد أن يربط به تأملاته وما كانت ألا روح أبن بللو يالجين ، فكان يسحب به طائرة الشعر الورقية كطفل يركض بألقه نحو قوس قزح غده الذي ينتظره .
فبعدما لملم شظايا سنينه وزفراته واختزال أصوات حيواته الداخلية والتي تصرخ منذ أمدٍ في ذاته ، ليهتف عالياً وبلسان الجميع ( أنا هنا) أنه هناك بين تلك الأمواج الثملة ، وقد رجع بنا الصدى إلى مناخات (ارثور رامبو) و (مركبة السكران) . نحن هنا صرخها في وجه النظام آنذاك وببراعة أصاغ نصوصه ، نحن هنا رغم أننا متروكين في هذا القبو الذي هو العطش الروحي والعقائدي في الوقت الذي كان الكثيرون ينسجون تحت جلودهم رافعين راية الشحوب . فأسس بذلك لحزنه وللغته صرحاً عبر قصائده مسجلاً موقفاً جلياً .
وكذلك كشف أسرار الرحلة في ( العربة الثانية ) بديوانه الثاني والرجل الذي يجلس فيها هو الذي جعلنا نشعر بزفير القطار ونتحسس أنين عجلاته التي تدور وهي تصارع السكك ، كأسنان رجل تصطك هلعاً من الرحلة المجهولة . أي حزن كان يلفك أيها المتحررُ من دائرة المستحيل ، وأي صوت هذا الذي يحاول تزيين وجه الرحلة الضبابية !! فالأرض كانت قاحلة والقافلة التي تبدو في الأفق محض سراب ، لكنك دائماً كنت تؤمن بأن :
(الصمت خوف أخر
للذين لا يتقونه ) .
أيها الحاكم أبداً بنهر الطفولة والذي طمرته مخالب غربان موسم الهجرة وعيون المدينة الناعسة والتي ما زالت مكحلة بك ، وقد تجمدت على رموشها المتعقبة آلاف الدموع ، ووجهك اليوم يعانق (وجه السماء) (كم هي مقدسة / زرقتك أيها البحر / صباحاتك تداعب الشمس / ولياليك / تعانق النجوم ) وأي إيمان بقدسية الأزرق فالصفة والموصوف هنا مقدسان لديه من وجهة نظرته الثورية ويقينه العقائدي ، فعملية الإسقاط التي تحدث للشاعر من لا وعيه هي كشف مكامن الذات البشرية أو كما يسمى بالحداثة الشعرية وأيمان الشاعر اللاواعي بالأشياء ، فتنبؤه بالرحلة الأبدية قد سقطت من لا وعيه في هذا المقطع الأخير من قصيدته (أنا هنا) :
صرخ نحو الأعالي ...
أغيثوني أنا هنا ..
وئدَ نفسه
داخل موجة البحر الثملة
رحلتنا ستمضي إلى الجحيم
دونما توقف
هيا معي يا صديقي
فقد أستطاع لاوعيه وثوريته الذاتية أن تتغلب على محيطه الخارجي البعض نظر إلى مملكته الشعرية من الخارج ولم يلق بنظرة فاحصة إلى الداخل ولم يتحسس الروح التي تسكنها ولم يسبح في فضاءآته . فكانت نصوصه ثورية تحررية تنبع من أرثٍ استطاع المحافظة عليه حتى آخر لحظة من عمره الشعري . ومن يتعامل مع لاوعيه الشعري بمنطق الواقعية فأنه يقع في خطأ فادح . فلم تخلُ حياته من صهيل القصائد ومعانقة القمر والذي رآه يوماً في رقة نهر طفولته (المدينة) فكانت الغربان تترقب وما أن نامت عيون المدينة حتى أنقضت عليه وطمرته بمخالبها تاركةً غبار طفولته وعشب ذكرياته تأخذها الريح رويداً رويدا . لقد أغتيل نهر المدينة والذاكرة فجأة مثلما أغتيل الليل وسهرات المواقد القديمة الدافئة والكثير من الاعتبارات ، كل هذه الأحباطات والمفاجآت بمحيطه قد لعبت دوراً في سنينه الأخيرة ، ورغم ذلك فقد تمكن بإصرار أن يستمد من أمطاره ابتسامةً لمواجهة جيوشٍ من الأحزان والمرارات الجرارة والتي حاولت محاصرته فخابت ، لأنه كان يسكن الرعد ، وقد تجلى كل ذلك في قصائده ، فالرجل بقي ثابتاً بموقفه إلى حد الحيرة والدهشة . ففي كل مرة تتلاطم أمواج البحر صدره تاركة لونه اللازوردي ليس في جسده فحسب ، بل في روحه وقلبه تماماً كما يؤمن الشاعر (حسن المرواني) :
لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها
لما أختاره الله لوناً للسموات
فنوارسه في قصيدة (أنا هنا) لم تكن سوى أيدي الملائكة التي حملت روحه فتحدى الموت وبارز القدر ليسطر نصر الشاعر الذي بوسعه أن يهزم المنايا . هكذا تحدى الموت ومضى إلى ملاقته بهندام أنيق حالقاً ذقنهُ متعطراً بأريج ربيعه وماشطاً شعره بسنابل سنينه لكأنه في عرس أو كرنفال شعري .
هكذا يرحل واثقاً من دربه تاركاً وراءه زلزاله والذي سيدوي أصداءه كثيراً في أفق ومدى الشعر التركماني . يالجين خير الله بللو رحل بجنون أمطاره لاجماً فم الجراح واقفاً بإباء منتظراً نوارسه البيضاء معتلياً صهواتهن متنقلاً بين أجنحتهن الناعمات آملاً الوصول إلى سرمديات القصائد .
أيها المجازف بروحه المعذبة دائماً والهائم أبداً ، وأرثك موجةٍ قديمة تقبلُ روحك المعذبة متحدياً بها الزمن :
( ماذا لديه عندي )
ماذا لديه عندي
سفير الموت
ليقف على رأسي
هكذا
سوى روح معذبة
وقد أخذها الزمن
ومضى
فليأخذها
طالما التجأ دائماً
لأحضان أمي .
يالجين بللو وهب روحه لنوارسه البيضاء وقال لنا انتظرونا سنأتي يوماً حاملين النرجس والياسمين لكم بعدما يشق الضياء ستائر الليل فهو عاشق خرافي لتربه مدينته ولثغرها الباسم بالفراشات (أنا لا أستطيع الحياة دون أن أضع قدمي ويدي وسمعي في تربة وطني) كما يقول – بابلو نيرودا .
وهذا ما فعله شاعرنا الشهيد الذي وهب كل ما يملكه لهذه التربة التي عشقها يوماً .
فلم يتعب يوماً من شبح الهواء باحثاً عن شفرة حادة بين كلماته كي يحلق لحية غيوم المدينة الكثة، ألا أن المناخ كان ضريراً لا يبصره ، شاعر ينقب في مناجم الروح عن أسنان قصائده البيضاء ، غير أن الحلم كان قصيراً وقد أصابه الكساح ولكن عصفورة روحه لم تتوقف عن الزقزقة ولن تكف عن الطيران فكم سنة وأنت تركض بقدمين عاريتين خلف اللصوص الذين اختطفوا النهر وحين عدت وجدت حذاءك قد سرق ، وكم من الدموع قد بكيت كي يبقى منسوب الفرح جارياً لترش منه برذاذ حلمك على وجه أطفالك وحضنك أكبر من قارة وعينك أكبر من مجرة .
طويل أنت كالمسافات ، وشاسع كالمدى ، كالمواويل من علم الريح أن تكون عاصفة هوجاء كي تسرق تراب البلاد ، وحدك من كان يعلم أن من يطيع العواصف تلك قد صبأ ، وحدك كنت تعرف كيف تؤجج الجرح شهوة الرماد ها قد سكبت ماء الروح فغرفت الكوابيس ببركة حلمك الصغير وقد كنت المنتصر .
آخر ما بقي قوله :
لو كنت أرى الموت لطعنته بسيف الحياة

اكتشافات

شعر : محمد أحمد آمرلي

قارورة عطر
كسرتها الحماقات
ليلة موت البنفسج
وسقوط مرايا الروح
احتفالا بهشيم لن يتكرر
المرأة بين أربعة جدران
تهمة باطلة
وأنا ضحية
الحروف الشاردة
من جسدها
الظلام مدخل لكل فضيحة
والموت
نهاية نكتشف بها أنفسنا
الآلام قطط متوحشة
تحفزنا بمواءاتها
ولا سبيل للجسد غير احتضانها .