و مجموعته الشعرية نشيد السلام
كتابة : أنور حسن موسى
منذ الستينات تنازعت مجموعتان أدبيتان على الصعيد الثقافي ، وحاولت كل مجموعة أن تستأثر باهتمام النقاد والصحافة وهما (مجموعة الثقافة الإنسانية) و(مجموعة الثقافة البرجوازية).اهتمت الأولى بتراث الشعوب والمفاهيم ذات النزعات الإنسانية القائمة على الحب والتعايش والعدل ، بينما اهتمت الثانية بالغموض والمبالغة بالفردية قوضت الجوهر الإنساني للأدب ..حاولت المجموعة الأولى التوجه نحو قطاعات واسعة من الشعب ولهذا حظيت باحترامهم، أما المجموعة الثانية فإنها خاطبت أقلية من المثقفين المولعين بالميثولوجيا القديمة والرمزية .على ضوء هذا الصراع بين المجموعتين تجلت غربة الشاعر البرجوازي عن الشعب بينما استقطب الشاعر الإنساني الواقعي اهتمام الأغلبية من القراء الذي يتوقون إلى قراءة كل ما يعبر عن واقعهم وتصور المعني النضالية في دأبهم وكفاحهم ضد كل ما يعيق البناء والنهوض وتحقيق العدل في مجتمع قائم على الظلم والاضطهاد. الشاعر(رضا جولاق أوغلو) في مجموعته الشعرية (نشيد السلام) يؤطر شعره ضمن مجموعة الثقافة الإنسانية فهو غير مغرم بالميثولوجيا القديمة بقدر ما هو مولع بميثولوجيا أمته ..انه يقيس زمنه ومكانه حسب تقاليد بلده تماماً كما فعل الواقعيون ..الشاعر جولاق اوغلو يريد أن يلعب دوراً تقدمياً في حياة شعبه وهو بذلك لا يريد أن يقول إن كل ما هو تعليمي وهادف بائس وفقير على حد تعبير(ت.س.اليوت).
إني حسب معرفتي الشخصية بالشاعر فانه رغم اهتمامه بالثقافة الأوربية مغرم بثقافة أمته وميثولوجيا شعبه، وانه تمكن بجدارة من تقليل التأثيرات الميتروبولوجية في شعره، وتوجه نحو الثقافة القومية يرفدها ويغذيها وينعش المعاني الإنسانية فيها. وانك حين تقرأ مجموعته تحس في الوهلة الأولى بحنين الشاعر إلى الأبدية ..هذا الحنين الذي ينبع من إيمانه بأصالة القيم والأخلاق الكريمة التي امن بها البدائيون ومارسوها في حياتهم فهو يدعونا إلى الاتفاق معه بان الأسلاف كانوا أفضل منا لأنهم كانوا مخلصين فرحين شجعان يعٌتمد عليهم ،بينما نحن المتمدنون فقلة قلية منا يتصفون بهذه الصفات ، ولعل جولاق أوغلو من أولئك القلة القليلة.
أما المفهوم الثوري للشعر لدى جولاق أوغلو فهو يتجسد في رفضه للمنطق البرجوازي للثورة الذي يفصل بين ثورة الشعر والإنسان .. انه يدعو إلى الحب والصوفية الحقيقية والتوازن والتواضع والصدق مقابل البغض للهلوسة والتعالي والادعاء ويقول إن الحب الحقيقي لا ينبع من خلال المثالية الكاذبة، الحب في نظر الشاعر هو الحب الذي يجيء مع الثورة ولا يرفع رايته وسط الخراب والفوضى ..انه يدعو الشعراء إلى الابتعاد عن حضيرة السلطان ويدعو في أكثر من قصيدة في مجموعته، وهي تضم أكثر من ثلاثين قصيدة الى نبذ العادات والتقاليد البالية التي تتحكم بالمجتمع ، ويرفض الأنانية وكل صفات الرذيلة .
شعر جولاق اوغلو وان كان لا يساهم في خلق ثورة شعرية الا أنه يدفع بالشعر الى خندق آخر وهو الخندق الاجتماعي ..انه يخلق ثورة اجتماعية وسياسية شاملة .إذن مفهوم الثورة في الشعر لدى جولاق اوغلو هو (أن الثورة لا تلغي دور الشاعر والشعر لا يلغي دور الثورة)..
شعر جولاق اوغلو يمتاز بجمال الوزن والقافية والموسيقى (موسيقى اللغة) إضافة إلى استخدام الميثولوجيا الشعبية والأساطير بلغة تركمانية عصرية نقية لا عن طريق تحويلها إلى أبيات نثرية ، بل الإشارة إلى أسمائها أو مضامينها وتوظيفها توظيفا موفقاً لتكون أداة تغييرية بيد الشاعر، يهدم بها البناء الاجتماعي المغرق بالرجعية والتخلف .
لقد اختار جولاق اوغلو ان يقف مع الآخرين ليحرق معهم ، ولم يقف مثل غيره على (الضفة الأخرى) ليستغرق في (الصلاة الكهنوتية)لان ذلك ليس من صفات أي شاعر حقيقي تحت أي مسميات... لغة الناس ،ولغة أهل الشاعر هي قاموس جولاق اوغلو الشعري فمنها يستقي كلماته الشعرية الزاخرة بالمعنى .. انه في شعره يقترب من مفهوم (ووردزوث) للغة الشعرية الذي كان متحمساً لــ (لغة الناس ).
انظر الى الشاعر في قصيدته الأولى (الغيوم) كيف يتحدث عن الغيوم التي تتجمع في سماء وطنه ولا تنس إن المجموعة قد نشرت في زمن الاضطهاد، فبعد أن يعدد لنا مراحل نشوء هذه الغيوم ،ورحلتها الطويلة وطوافها الواسع في الكون يقرر بأنها تحمل لنا البركة والخير والسعادة كأنه يذكرنا بمطر السياب إذ يتنبأ بقيام ثورة 14 تموز الخالدة .
ولنلق نظرة على قصيدته (الجهود المضنية )التي يشيد فيها بالنضال الدءوب للشعوب من اجل نيل الحرية ، ويعري أولئك الذين يتقاعسون عن النضال الفعلي ويكتفون بالحديث والسفسطة عن الثورة والخلاص فيلاتهم البرجوازية، وعلى متون سياراتهم الفارهة، وفي حفلاتهم و عربداتهم ... وبين دخان سجائرهم الغالية الثمن في المقاهي والبارات (بتوع نضال آخر زمن في العوامات) كما قال الشاعر المصري (احمد فؤاد نجم) وكما وصفهم نجيب محفوظ في معظم رواياته. ها هو الشاعر يقول :
(يقال إن من لا يشمر عن ساعده
ويفتح صدره للرماح
وينازل الموت في ساحة الوغى
لن يذوق طعم الحرية أبداً ).
يعتبر الشاعر رضا جولاق اوغلو من أكثر الشعراء التركمان تعلقاً بالشعر فهو يكاد يتنفس الشعر .. لقد كنت أراه دوماً في سجن أبي غريب أثناء زيارتي لشقيقي المسجون معه ..كان حين يلتقي بي أول سؤال يتبادر الى ذهنه هو: ها صدر العدد الجديد من جريدة – يورد-الوطن ؟ وإذا قلت له نعم يظل يسألني عن القصائد المنشورة فيها وعن أصحابها ، ولا يمل من السؤال ، وكان يتابع ما ينشر من شعرنا وهو في السجن ، ولقد حدثني كثيراً عن أشعاره، وعن ملاحمه الشعرية التي تربو على مئات الأبيات، وحدثني عنه أحد أقاربه من تلعفر وقد جاء لزيارته إن الشاعر الكبير المرحوم (فلك اوغلو) قال مرة : انه سلم راية الشعر في تلعفر الى رضا جولاق أوغلو.
كتابة : أنور حسن موسى
منذ الستينات تنازعت مجموعتان أدبيتان على الصعيد الثقافي ، وحاولت كل مجموعة أن تستأثر باهتمام النقاد والصحافة وهما (مجموعة الثقافة الإنسانية) و(مجموعة الثقافة البرجوازية).اهتمت الأولى بتراث الشعوب والمفاهيم ذات النزعات الإنسانية القائمة على الحب والتعايش والعدل ، بينما اهتمت الثانية بالغموض والمبالغة بالفردية قوضت الجوهر الإنساني للأدب ..حاولت المجموعة الأولى التوجه نحو قطاعات واسعة من الشعب ولهذا حظيت باحترامهم، أما المجموعة الثانية فإنها خاطبت أقلية من المثقفين المولعين بالميثولوجيا القديمة والرمزية .على ضوء هذا الصراع بين المجموعتين تجلت غربة الشاعر البرجوازي عن الشعب بينما استقطب الشاعر الإنساني الواقعي اهتمام الأغلبية من القراء الذي يتوقون إلى قراءة كل ما يعبر عن واقعهم وتصور المعني النضالية في دأبهم وكفاحهم ضد كل ما يعيق البناء والنهوض وتحقيق العدل في مجتمع قائم على الظلم والاضطهاد. الشاعر(رضا جولاق أوغلو) في مجموعته الشعرية (نشيد السلام) يؤطر شعره ضمن مجموعة الثقافة الإنسانية فهو غير مغرم بالميثولوجيا القديمة بقدر ما هو مولع بميثولوجيا أمته ..انه يقيس زمنه ومكانه حسب تقاليد بلده تماماً كما فعل الواقعيون ..الشاعر جولاق اوغلو يريد أن يلعب دوراً تقدمياً في حياة شعبه وهو بذلك لا يريد أن يقول إن كل ما هو تعليمي وهادف بائس وفقير على حد تعبير(ت.س.اليوت).
إني حسب معرفتي الشخصية بالشاعر فانه رغم اهتمامه بالثقافة الأوربية مغرم بثقافة أمته وميثولوجيا شعبه، وانه تمكن بجدارة من تقليل التأثيرات الميتروبولوجية في شعره، وتوجه نحو الثقافة القومية يرفدها ويغذيها وينعش المعاني الإنسانية فيها. وانك حين تقرأ مجموعته تحس في الوهلة الأولى بحنين الشاعر إلى الأبدية ..هذا الحنين الذي ينبع من إيمانه بأصالة القيم والأخلاق الكريمة التي امن بها البدائيون ومارسوها في حياتهم فهو يدعونا إلى الاتفاق معه بان الأسلاف كانوا أفضل منا لأنهم كانوا مخلصين فرحين شجعان يعٌتمد عليهم ،بينما نحن المتمدنون فقلة قلية منا يتصفون بهذه الصفات ، ولعل جولاق أوغلو من أولئك القلة القليلة.
أما المفهوم الثوري للشعر لدى جولاق أوغلو فهو يتجسد في رفضه للمنطق البرجوازي للثورة الذي يفصل بين ثورة الشعر والإنسان .. انه يدعو إلى الحب والصوفية الحقيقية والتوازن والتواضع والصدق مقابل البغض للهلوسة والتعالي والادعاء ويقول إن الحب الحقيقي لا ينبع من خلال المثالية الكاذبة، الحب في نظر الشاعر هو الحب الذي يجيء مع الثورة ولا يرفع رايته وسط الخراب والفوضى ..انه يدعو الشعراء إلى الابتعاد عن حضيرة السلطان ويدعو في أكثر من قصيدة في مجموعته، وهي تضم أكثر من ثلاثين قصيدة الى نبذ العادات والتقاليد البالية التي تتحكم بالمجتمع ، ويرفض الأنانية وكل صفات الرذيلة .
شعر جولاق اوغلو وان كان لا يساهم في خلق ثورة شعرية الا أنه يدفع بالشعر الى خندق آخر وهو الخندق الاجتماعي ..انه يخلق ثورة اجتماعية وسياسية شاملة .إذن مفهوم الثورة في الشعر لدى جولاق اوغلو هو (أن الثورة لا تلغي دور الشاعر والشعر لا يلغي دور الثورة)..
شعر جولاق اوغلو يمتاز بجمال الوزن والقافية والموسيقى (موسيقى اللغة) إضافة إلى استخدام الميثولوجيا الشعبية والأساطير بلغة تركمانية عصرية نقية لا عن طريق تحويلها إلى أبيات نثرية ، بل الإشارة إلى أسمائها أو مضامينها وتوظيفها توظيفا موفقاً لتكون أداة تغييرية بيد الشاعر، يهدم بها البناء الاجتماعي المغرق بالرجعية والتخلف .
لقد اختار جولاق اوغلو ان يقف مع الآخرين ليحرق معهم ، ولم يقف مثل غيره على (الضفة الأخرى) ليستغرق في (الصلاة الكهنوتية)لان ذلك ليس من صفات أي شاعر حقيقي تحت أي مسميات... لغة الناس ،ولغة أهل الشاعر هي قاموس جولاق اوغلو الشعري فمنها يستقي كلماته الشعرية الزاخرة بالمعنى .. انه في شعره يقترب من مفهوم (ووردزوث) للغة الشعرية الذي كان متحمساً لــ (لغة الناس ).
انظر الى الشاعر في قصيدته الأولى (الغيوم) كيف يتحدث عن الغيوم التي تتجمع في سماء وطنه ولا تنس إن المجموعة قد نشرت في زمن الاضطهاد، فبعد أن يعدد لنا مراحل نشوء هذه الغيوم ،ورحلتها الطويلة وطوافها الواسع في الكون يقرر بأنها تحمل لنا البركة والخير والسعادة كأنه يذكرنا بمطر السياب إذ يتنبأ بقيام ثورة 14 تموز الخالدة .
ولنلق نظرة على قصيدته (الجهود المضنية )التي يشيد فيها بالنضال الدءوب للشعوب من اجل نيل الحرية ، ويعري أولئك الذين يتقاعسون عن النضال الفعلي ويكتفون بالحديث والسفسطة عن الثورة والخلاص فيلاتهم البرجوازية، وعلى متون سياراتهم الفارهة، وفي حفلاتهم و عربداتهم ... وبين دخان سجائرهم الغالية الثمن في المقاهي والبارات (بتوع نضال آخر زمن في العوامات) كما قال الشاعر المصري (احمد فؤاد نجم) وكما وصفهم نجيب محفوظ في معظم رواياته. ها هو الشاعر يقول :
(يقال إن من لا يشمر عن ساعده
ويفتح صدره للرماح
وينازل الموت في ساحة الوغى
لن يذوق طعم الحرية أبداً ).
يعتبر الشاعر رضا جولاق اوغلو من أكثر الشعراء التركمان تعلقاً بالشعر فهو يكاد يتنفس الشعر .. لقد كنت أراه دوماً في سجن أبي غريب أثناء زيارتي لشقيقي المسجون معه ..كان حين يلتقي بي أول سؤال يتبادر الى ذهنه هو: ها صدر العدد الجديد من جريدة – يورد-الوطن ؟ وإذا قلت له نعم يظل يسألني عن القصائد المنشورة فيها وعن أصحابها ، ولا يمل من السؤال ، وكان يتابع ما ينشر من شعرنا وهو في السجن ، ولقد حدثني كثيراً عن أشعاره، وعن ملاحمه الشعرية التي تربو على مئات الأبيات، وحدثني عنه أحد أقاربه من تلعفر وقد جاء لزيارته إن الشاعر الكبير المرحوم (فلك اوغلو) قال مرة : انه سلم راية الشعر في تلعفر الى رضا جولاق أوغلو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق