2009/04/06

أمام الستار


تراجيديا المدينة

فاضل الحلاق
كاتب ومسرحي



(مأساة طيبة) جزء من سلسلة مسرحيات عن عائلة لايوس سبق أن عالجها أسخيلوس ثم سوفوكليس بأساليب وأشكال مختلفة ، لكنها لم يبعدا كثيراً عن قيمة القدرية التي يكاد الإنسان يقف عاجزاً أمامها ، غير أن الزمن الممتد وبين الكاتب الفرنسي راسين أطاح بالكثير من القيم والتصورات والأفكار وظهرت مبادئ وفلسفات ورؤى أشرت معظمها إلى الانفتاح والابتعاد عن الغيبيات وأن الإنسان موقف ولابد من أن يخدم وإن حرية الشعوب مقدسة ولا يجوز الاستهانة بها والنظر إليها من الأبراج العالية .. [ المسرحيات اليونانية عموماً كانت تعبر عن مرحلة نشؤء وتفكك الفئة المحاكمة التي اتكأت على الفردية المطلقة ، بين أراد شكسبير وغيرهم من كتاب عصره تصوير اضمحلال النظام الإقطاعي وتحطمه على عتبات العصر الجديد] .. راسين الذي كتب " مأساة طيبة " صاغها بشكل تتلائم وتطورات عصره .. وبإيجاز : هناك مدينة يدعي الجميع بحبها وعشقها ، ولكن كل على طريقته الخاصة ونواياه المبيتّة كل جهة تريد الاستحواذ على مقدراتها واغتصابها بشتى الذرائع والتبريرات .. الأمير كريون ، خال الأخوين المتنازعين يقف على أهبّ الاستعداد لكي يتفقا على مسألة الملك واعتلاء العرش .. لكن الصراع بينهما لا يدع للعقل مجالاً للراحة والتأمل .. كان من المفروض وحسب وصية والدهما " أوديب " أن يتعايشا ويتقاسما السلطة بينهما .. لكن سحر وبريق العرش وشعور أحدهما بالتفوق على الآخر أبرزا حالة المغابرة والنفور بينهما فاندفعا إلى تجيش الجيوش والدخول في حرب طاعنة شعواء ثم المبارزة فيما بينهما والموت وسط ذهول الجميع ونواح وبكاء الأم الشقية وأختهما الملتاعة أنتيجونا .. أن المدينة " طيبة " تسع الجميع وبامكانها أن تعيش بسلام ، لكن المواقف المتباينة الحادة تنزل الستار في النهاية على الخاسرين في صراع خاسر .. هنا نعق بوم البغض على الأخوين بدل هديل طير الوفاق والتفاهم .. يقول راسين : كان بولينيس يعتمد على الحق الإلهي في العرش وأتيوكل يعتمد على الشعب ، فقد كان بحاجة إلى هذه الحجة لتغذية بغضها وعزاء النفس والادعاء بأن الإله يقف معها .. وكان هناك من يراقب الأوضاع لكي ينهي الأخوان أحدهما الآخر ويتقدم لإملاء الفراغ ! .. أن كل حقبة من التاريخ شهدت أحداث خطيرة جسام أشترك فيها ملوك وقادة وأبطال ورجال ونساء ، أدوا أدواراً يقف الدماغ أمامها ملجوماً مصعوقاً من شدة أهوالها وبشاعتها وتحولت حياتهم المأساوية إلى حكايات مغمسة بالأساطير والخرافات وبأقلام ورؤى كبار الكتاب والشعراء اشتهرت كروائع الأدب العالمي من مسرحيات وروابيات وقصص شامخة وفي هذا الزمن الخائب بأحداثه وتناقضاته وأهواله وتشابكاته منذ الحرب الأولى وإلى الآن ، أصبحت صياغة المآسي من قبل شعرائنا وكتابنا معجونة ومختطة بالكوميديا .. نبكي ونضحك .. ونضحك ونبكي .. على أنفسنا وعلى الآخرين .. لقد تأخرنا حين كان يجب نتطور .. وأصبحت رايات التعاسة تتقدم مواكب سعادتنا .. وسنوات خيباتنا تختزلها وتجسدها كلمات جوكاستا أم الأخوين العاقين المتوحشين :
ها نحن أذن وااسفاه ..
نرى هذا اليوم الكريه
لا الدعاء أجدى ولا البكاء
فغليل القدر يريد أن يرتوي ! ..
أن العديد من المدن المشهورة ومن بينهما (بغداد) الحبيبة عاشت أفظع وأشنع الصراعات على العرش .. ولكي لا نبتعد كثيراً عن مدينة " طيبة " فقد شهدت قلبها صراعاً كاد يؤدي إلى نشوب حرب بين كريون و أوديب وذلك حول المسئول عن الدنس .. كان الناس في حالة غليان وهياج والطاعون يفتك بالعشرات .. ورهط السلطة يبحثون عن الأسباب ويتهم بعضهم البعض بأبشع الصفات والنعوت ، والخاسر الأوحد : الشعب والوطن .. أن الكثير من المؤلفين عالجوا مسألة السلطة بشكل دقيق وغريب ، ويكاد يتفق الجميع على أن الدم هو الرابط القوي الذي يجمعهم .. ففي مسرحية الملك لسعد الله ونوس، نسمع الملك وهو يقول بكل ثقة :
لا شيء يطهر الملوك مثل الملوك مثل الدم .. سأقتل ، سأستحم فيه .. سيكون بعد اليوم طيبي وعطوري .. ولنسمع بولينيس في مسرحية " مأساة طيبة " يتشدق بكل فخر أمام أمه وأخته : ليرقب هنا الشعب أو ليتعلق بنا كما يشاء ، فليست أهواؤه هي التي ترفعنا إلى العرش ،بل هي الدماء ، وعليه أن يقبل ما يقدمه له الدم .. أنه البعض .. كما يقول رولان بارت – يبحث عن القوة .. أنهما متلاصقان ، هناك تيار داخلي يحرك كتلة واحدة .. البعض يقرب بين الأخوين .. اتيوكل وبولينيس .. والأمين والمأمون .. أن كلا منهما محتاج إلى الآخر لكي يحيا ويموت .. وجاذبية العرش تسحبهما إليهما بقوة .. وبقية الادعاءات والحجج والشعارات وبيانات التمريض وتأجيج الأجواء وتجيش الجيوش وتأليب الرأي العام ونظريات المؤامرة والعمالة ، كلها تحصيل حاصل للصراع الأصلي والوصول إلى حافة الجريمة غير أن لسان الشعب المغلوب على أمره دوماً سيلهج أبداً بكلمات الشاعر محمد الماغوط :
في دمي رقصة الفالس
وفي عظامي عويل كربلاء
وما من قوة في العالم
ترغمني على محبة ما لا أحب
وكراهية ما لا أكره .

هل الديمقراطية مفهوم تجريبي ؟

وممارستها ضرورة لابد منها !!

كتابة : تحسين ياسين

مما لا شك فيه أن مقولة- فولتير- الشهيرة هذه ستبقى خالدة أبداً الدهور ورغم اختلاف الآراء والمفاهيم، فهي حقاً التعبير الحي والملموس الذي يلامس الروح بكل صدق وهي التعبير السامي عن الروح الإنسانية لفهم الحرية الحقة.. لقد أصاب فولتير كبد الحقيقة، فالديمقراطية مفهوم تجديدي تجريبي وعملية ممارستها ضرورة لابد منها ، ومن أجل تكريس السلوك الديمقراطي وتهذيبه يتطلب تحفيز النفوس وتحديث المؤسسات كافة ، والعمل على أيجاد العوامل المشتركة ما بين مؤسسات الدولة والطبقات الاجتماعية المتفاوتة ، والإيمان بحقوق المواطن من قبل الدولة ومؤسساتها، والإيمان أيضاً بحقوق الدولة على الفرد وكذلك الإيمان واحترام القوانين وتحديد لكل واجباته تجاه الآخر .
أنّ بناء القواعد الصحيحة انطلاقاً من مفهوم الديمقراطية في متناول الجميع وتنظيم العلاقة بين الشعب والحكومة وضمان مستقبل الفرد واحترام الرأي والرأي الأخر هي التي تدفع المجتمع إلى بناء دولة مؤسسات ذات قيمة مدنية مبنية على قيم جديدة وفق مفاهيم حديثة ومتينة تستند على أسس واقعية قابلة للصرف بعيدة عن الشعارات العاطفية والغيبيات المثيرة للجدل .. ونحن عبر سنين طوال بيننا نظمنا وكما هو معروف وفق دوافع عاطفية وروحية خيالية ميتافيزيقية . ولم نتعامل مع المنطق والواقع إلا خيالياً . ولذلك كان التصادم هو سيد الموقف وانحدرت إزاء هذه الحالة البنى الفكرية للمجتمع نحو الهاوية فحصل الخواء أو الفراغ الرهيب والشاسع في روح الفرد الأمر الذي شجع وحفز المجتمع ودفع به إلى البحث عن مخرج فظهرت فكرة خلق الزعيم اللاهوتي وأن كان حتى خيالياً تكون يده يد الحاكم المطلق وهو الأمر والناهي الذي يهب الحياة ويسلبها حيثما شاء وله ( الحق الإلهي ) بتعامله الفوقي مع المجتمع لأنه قائد الضرورة والملهم الذي يُلهم أفكاره من وراء الطبيعية وبذلك انفرطت حبات العقد الاجتماعي وصار الناس على دين ملوكهم وظهرت دكتاتوريات وحكومات فاشية وتحول المجتمع إلى آليات مسيرة يقودها الديكتاتور وسادت فكرة ( البطل الشعاراتي ) القومي ، والضروري التي أثبت الزمن أنه لن يبقي من ضرورته شيئاً . وهكذا وغيرها من الألقاب التي لا يمكن المساس بها .
ونحن اليوم بعد أن تجرعنا مرارة هذه السياسة حقباً من التاريخ أضعنا الخيط والعصفور في الوقت الذي تحولت كلمة الديمقراطية إلى غيمة قاتمة في مفهوم البعض فباسمها يتم اليوم التجاوز على حقوق الآخرين وصار دم الإنسان مباحاً لأخيه الآخر وأنقسم المجتمع إلى أثنيات متعددة متناحرة بعدما تخلص من الديكتاتورية وتحولت الديمقراطية إلى (جوكر) يستخدمه البعض لمصالحه الشخصية أو الفئوية في الانتخابات وصارت أفكارهم الضيقة المحدودة التي تكاد تكون ملتصقة بأفواههم كما يلتصق (الستريج) بساق امرأة . إذ يطلون علينا كل يوم من خلال القنوات الفضائية وهم مرتدين أقنعة مختلفة المنشأ والبعض منها مصنعة في هوليود صنعت خصيصاً لمن يلعب أدوار (البطل) أو دور (الشريف) في فيلم (كابوي) و.. وهكذا تطول القائمة ويطول معها عذابنا في كل يوم ولحظة فنراهم في كل فضائية يهيمون ويقولون ما لا يفقهون ، ثم يوزعون الابتسامات المجانية بدل لقمة العيش والأمان مظهرين أسناناً كالأرز .. ويا ليت شعري لو أن أفعالهم كانت بيضاء كأسنانهم وينتهي لقاءهم والمحصلة لدى المواطن المزيد من الصداع المجاني ثم المزيد من الموت المجاني ، وخلف الكواليس يكشرون عن أنيابهم ويمزقون كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من عالمهم العلوي ومفقود يا ولدي من يحاول فك شفراتهم مفقود .. مفقود من يدنو من أبواب سياراتهم الفارهة ، ومن يذكرهم بماضيهم مفقود .. مفقود يا ولدي مع الاعتذار من روح العندليب الأسمر والشاعر الكبير نزار قباني رحمهما الله تعالى .
ما أريد قوله أننا لم نزل نختبئ تحت جلودنا وخلف أبواب فولاذية ضيعنا مفاتيحها ومازلنا لم نتحرر من الأفكار الضيقة كثقب الإبرة وهذه الإبرة حين توخز تسبب التسمم وتودي إلى الهلاك . ليست لدينا الشجاعة لمد جسر التواصل ما بيننا فكثرة الخطوط الحمراء هي التي توّلد الحواجز فتتشكل في رؤوسنا الدوائر اللامتناهية وتتسبب في تراجعنا إلى خطوطنا الخلفية الصدئة والاختباء تحت جلودنا كما أسلفت .. لذا نبدو أكثر عجزاً في تعاملنا مع الواقع الحضاري .
فإذا تحرر الإنسان من هذه القيود والدوائر المغلقة وبدأ يغرد خارج هذه المنحنيات الضيقة يكون في وسعه أن يتفاعل مع الحاضر والمستقبل .. أذن علينا أن نكون صادقين وواقعيين في ممارسة الحُب والديمقراطية ونكون متحابين لا متحاربين متجاوبين لا متجاوزين، علينا تجاوز المعوقات ومعالجتها حضارياً والتفاعل مع الواقع كمنطق لا كأسطورة ونتعامل مع رئيس الدولة كموظف لا كقائد ضرورة ولا نتخيله ماءً وهواءً ومواد كيمياوية أخرى ، وهو في الحقيقة رجل كباقي الرجال واحد منا .. عندها يمكن بناء حياة عصرية مدنية ضمن دولة مؤسسات تحترم القوانين . فالدول العظيمة وليدة جهود أبنائها ولا تبنى عن طريق الحديث عن الشاطر (حسن) وأبطال الأساطير الخارقين، وكف الحديث عن السندباد والأربعين حرامي لأن اللصوص تجاوزوا عندنا هذا العدد أضعافاً مضاعفة ، لأن مثل هذه الحكايات تروى للأطفال الذين تعودوا على النوم عند سماعها ، ولا بالجلوس ووضع اليد على الخد كما يقال ولا بانتظار (غودو) أو انتظار عودة (الابن الضال) الذي أبدع في إخراجه الفنان الراحل يوسف شاهين والمراهنة على شخصية ( القائد) أو (المنقذ) لقد سئمنا من هذه الأساطير التي لها أول وليس لها آخر، والأمم العظيمة خلقت أمجادها وبنت تحضرها بيد وفكر مبدعيها ومفكريها. الأمة اليابانية مثلاً لم تنتظر الشاطر (حسن) حتى يأتي على صهوة جواده الأبيض أو الأشهب كي يصنع لهم شركة (توتوتا) الرائعة والتي تغزو اليوم العالم بمنتوجاتها العالية الجودة ولا الأمة الألمانية بشركتها العملاقة (مرسيدس بنز) وكذا الحال بالنسبة لبقية الأمم والدول .
لقد أتخمنا وتهنا بالأحاديث الجانبية وبإطاعة الديكتاتوريات التي حكمت أمتنا سنين طوال لأجيال متعاقبة .
الحل في بناء البنى التحتية للإنسان العراقي ويعني بناء وعيهُ وثقافته كما يراها العديد من المفكرين العراقيين وغيرهم والخروج من هذه المتاهات . الحل في بناء دولة القانون وبناء المؤسسات الحقيقة وليس في حلها ، الحل في الحوار المثمر وليس الضجيج الذي لا طائل منه سوى الصداع .
أننا اليوم أمام مفترق طرق فأما أن نتفاعل مع الحاضر ونتقدم نحو المستقبل وأما أن نقطع الصلة بالحاضر ونفعّل الحقب التاريخية والتي هي معطلة لا أمل يرتجى من تزيدها . فبناء الحياة لا يمكن أن تبنى وفق المحسوبيات والعقد الطائفية والتي لا نجدها عند الأمم المتحضرة .
اليوم نحن بين أن نختار الحاضر كي نضمن المستقبل أو أن نختار الماضي ونضيع في متاهاته ، إما أن نكون أو لا نكون، فالماضي أصبح في خبر(كان) وكان فعل ماض ناقص والزمن فيه معطل ، وأما الحاضر فهو الديمومة والحركة والتكاثر ( أوكسجين – ماء – نمو – تحرر – بناء) علينا أن ننسى الماضي ونبني حاضراً مشرقاً لنا ومستقبلاً زاهراً واعداً لأجيالنا القادمة بعيداً عن التناحر والنزاع التاريخي فالأيام هذه أمانة في أعناقنا ومسؤولية المحافظة على الروابط الاجتماعية مسؤولية أخلاقية من أجل أولادنا الذين علينا أن نعلمهم الحب والتسامح فلا يمكن بناء مجتمع ودولة وقوانين وفق منظور طائفي ولا يمكن لنا بناء الحياة والمستقبل على الحقد والكراهية .
فلننظر قليلاً إلى هذه الأمم والشعوب التي تبدع في كافة المجالات ، ونحن ( أولاد النهار دة ) كما يقوله الأخوة المصريون – أن اجترار الماضي والبكاء على الطلول والتغني بسير الأجداد العظام لا يقدم ولا يؤخر، مع أدراك ضرورة احترام الإرث التاريخي والاعتزاز به . ولكن ذلك لا يجعلنا نتوقف فبتلك المحطة في الوقت الذي يسير فيه قطار التقدم الحضاري بسرعة هائلة وهو يقطع المحطات تلو المحطات . وذلك أن الحياة في تجدد دائم وحركة الإبداع لا تفتأ تمضي في سبيلها مقدمةً كل ما هو جديد ورائع . وهذه هي سنة الله في الكون ، لأن الأرض لو كفت عن الدوران حول نفسها أو حول الشمس لأختل نظام الكون وعلى الإنسان الذي يعيش على الأرض أن يتناغم في حركته وفكره مع نظام الكون الذي هو جزء منه، ورغم ذلك فأن مما يؤسف له أن البعض منا يعتبر نفسه هو مركز الكون وأن على الكواكب والنجوم والأفلاك أن تغير مساراتها لتدور حول رأسه والذي لا يصلح أن يكون الاّ عشاً للخفافيش أو أن تضرب به عرض الحائط كالبيض الفاسد. حقاً فتلك هي مصيبة المصائب والأنكى من ذلك أن كلاً من هؤلاء يعتبر وجوده ضرورة لا غنى عنها ، وأن الحياة لا تقوم ألا بها . تماماً كضرورة الماء والهواء ، ولو أن أولئك (العظماء والأفذاذ) قد خرجوا من سفينة حياتنا والتي تتقاذفها الأمواج وألقوا بأنفسهم في وسط البحر لأراحوا واستراحوا، ولكن من سوء حظنا ونكد الدنيا علينا أنهم يتشبثون بها حتى آخر لحظة من أعمارهم المديدة .
أما نحن فما زال بعضنا يتباهي ويهتز طرباً ويسكرُ حتى الثمالة لأحاديثهم أو لوريقاتهم الصفراء التي تفوح منها عفونة التاريخ المزيف في دهاليزهم المظلمة والتي يعممونها على مريديهم وأتباعهم مجاناً ، تماماً كموتنا المجاني الذي يقع يومياً هنا وهناك في هذا الوطن المثخن بالجراح فهل نفيق ونفهم ما قاله فولتير- يوماً !! وأن غداً لناظره لقريب ..

ظمآن الشوق

شعر : فريد الهرمزي

أني ظمآن الشوق
إليك يا ملاكي
ولهان القلب
لا أرى في الكون ‘لاك
سهران الليل
ساهم أرتجي لقاك
طيفك ما برح يغازلني
وفي كل نبضة قلب أراك
قلبي ينبض بحبك
فهو صريع هواك
عاهدت فينوس
أن أحفظ في دمي ذكراك
عيناك معبدي
وأنا لم أعبد بشراً سواك
قالوا أنساها
فنسيت نفسي ولم أنساك
صلاتي أنت ، وذكري هو
أهواك ، أهواك ، أهواك ! ...

صور خارج الاطار

متين عبدالله كركوكلي

ستة تعاريف لموت واحد
كنت قد اطلعت على قصائد وأفكار الشاعر (نورالله كنج) من خلال متابعتي لبعض حلقات برنامج ( قهوة بهانة ) الذي يعـدّه ويقـدمه الدكـتور سنائي دميرجي وشاء القدر أن يكحل عيني بكُتيب يجمع قصائد ستة شعراء مع نبذة مختصرة عن حياتهم بينهم الشاعر (نور الله كنج) مع آخر من كركوك وشاعرة من أذربيجان. أفردت للشاعر الصفحات من 14 إلى 17 مع ستة قصائد مختارة للشاعر نفسه الذي أراد أن يثبت من خلال قصيدته (السيد) إن الموت الذي يخافه ويهابه الكثيرون أنما يدفع بصاحبه إلى مرحلة ثانية من الحياة وفقاً لمفهوم الحديث النبوي الشريف الذي يصف القبر أما روضاً من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، مغلفاً بمسحة فلسفية رقيقة أمتاز بها قصائد الشاعر وتفوق على أقرانه رغم اختصاصه الأكاديمي في العلوم الاقتصادية أسعفهُ في ذلك عمق ثقافته الشخصية ووضوح الفكرة لديه إضافة إلى سلاسة اللغة ووحدة الهدف المترابط بين تراكيب جمله الشعرية.
(نور الله كنج) من مواليد 9/9/ 1960 ناحية خراسان التابعة لمحافظة أرض روم التركية أكمل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في مدارس الناحية المذكورة ، تخرج من كلية الإدارة والاقتصاد عام 1984 عين أستاذاً مساعداً في نفس الكلية التي تخرج منها ثم تدرج في الألقاب العلمية ماجستير ، دكتوراه إلى أن نال لقب البروفيسور ، حالياً يرأس المجلس العلمي في كلية الإدارة والاقتصاد.
قياساً إلى عمره يصنف في خانة الأدباء الشباب بداً النشر مبكراً سنة 1980 عرفه القراء شاعراً ثم كاتباً لمقالات فلسفية نال عام 1987 جائرة وزارة الثقافة والسياحة عن روايته (Tutkular keder oldu) ، أما ديوانه الشعري (yağmur) فقد فاز بجائزة الأوقاف والشؤون الدينية ، وفي عام 1996 كرّم من قبل صحافيي شرق الأناضول إضافة إلى جوائز شعرية أخرى في مهرجانات التي تنظمها إدارة بلديات محافظات تركيا .
السيدّ
خارجاً من قلوب العبيد
قادما يأتي الموت
من على الجدران التي أحببتها
يبتسم لي الموت

أي المحطات لي
أي الحدود وهمي
مزدانا بالورود
يعرف الجواب الموت

أمام كلّ الأبواب
يطنن أذني
يستحيل إلى حدائقي .. مرةّ
ومرةّ إلى حية ، الموت
في حدائق الضباب
النيران تفهمني
الحقيقة عند من ؟
وفي مَنُ الموت كذب ؟ !
الضوء جلاّد الكلام أسود
والتراب غريبة عني
الموت يوجد الضياء
في رحم الظلمات

الموت أجل المتناقضين
الذين يقفون عند روحي
الموت ، سلطان الخوف

لقد قيل قديماً (وإن تعددت الأسباب فالموت واحدٌ) وجدت في القصيدة ستة تعاريف لموت واحد، أبدع الشاعر في قراءته لمجهول لايزال الكثيرون يهابونه حدّ الخوف. إلاّ الذين يتزودون ويستعدون له .

2009/04/05

المسرحي عبد الرزاق محمد عزيز...

شواخص الذات المبدعة
أحاط نفسه بهالة من الكتب يطالع بشغف جم بل ويكثر من القراءة كلما سنحت له الفرصة وانك لتعجب حين يداهمك بموضوعات وكتب ابتلى بقراءتها تنضح أفـكارهـــا وهو يتحدث بخلاصــة
مدخلاتها . ليس سياسيا محترفا ولم تجرفه موجات النفعية وهرولة المنافع الآنية كوجودي. فهو يعيش روح السياسة وجوهرها الناصح هدفه الأسمى هو الفن المسرحي الذي لا بديل عنه هو معينه و سديم رؤاه الثاقبة وجدله المطلسم لا يختفي بالبهرجة.المسرح الجاد شغله الشاغل وما تبقى من صبره وجلده ومثابرته هي مقايضة الوقت رغم جلوسه على كرسي- إداري- في نقابة الفنانين عدة سنوات وحضي بزيارة العديد من المسؤولين لكنه حتى الآن لم يوفق في الحصول على قطعة ارض تاويه .كم أنت صبور يا عبدالرزاق وأنت شامخ يا أبا دعاء أيها الجندي المجهول الذي لا يعرف وقتا شاغرا ليعبث بأصول الناس وألوانهم وأجناسهم وميولهم وقومياتهم.. انه أخ لجميع الناس مثل لوركا بانتظار أن تهب عليه كل رياح العالم ومن كل الاتجاهات لان المسرح أصبح زاده و زوادته في سفر حياته و سنوات عمره الجميل.
من أين تأتي بهذا الصبر لعدم رؤية الأصدقاء الذين أحبوك عجيب أمرك أيها القرصان جواب البحار، يقف إلى جوارك- بر يخت –وأنت أسير المتاهة تخوض ملاحم غير محسوبة فوق خشية المسرح تعبق كالزهور و بأمنيات صغيرة تفوق أحلام - لورانس اوليفر و اورسون ولز – لكنك متخم بعصارة جهود أنور رمضان و سلمان فائق و عصمت نجاتي وتداعيات الراحل جليل القيسي، رغم انك تتقاطع معه كوجودي عارم المفاهيم لا ينتظر مثلما تنتظر أنت (بيكت وغوغول) وما أن يأتي جودو – حتى تبدأ الهرطقة ويذوب صمت العاشق الرنف – رزاق المخرج و الممثل الذي لا ينطق حتى يتكلم ولا يبكِ حتى لا يصرخ وبقدر ما هو ناضج فهو فاشل وبقدر ما هو فاشل فهو ناضج ومبدع .
رزاق ابن محلة العرصة حيث بيوت الطين والدرابين الضيقة وهموم وأوجاع الكادحين انه الموهوب الذي هام بحب المسرح الغائر في مجاهل ما يمكن أن تسمى – تهويمات – وكأنه يشحذ غير هياب لشروط الدخول القاسية التي يفرضها النشاط المدرسي آنذاك وما عدا ذلك هلوسة تذرها الرياح . رجل لا يعرف التجارة و الربح و لا يخشى الملاق وكوارثه. شجاع في صمته المذهل ، جدلي المنطق عندما يعتروه انكسار الفكرة. تتبع نصائح – ستانسلا فسكي – عاشقا ً لطلاسمه وموحياته السحرية وتوجيهاته المرنة السلسة المأخوذة أصلا من تلامذة المسرح ورغباتهم الجياشة و معكوسة إليهم بصيغ سايكلوجية متفردة. كان الصدق يأخذه بعيداً في مهنته الشاقة حين يؤدي دوره ممثلاً لعموم الجمهور ساعياً إلى توفير شحنات موجبة في رصد المزاج الشخصي وذلك للابتعاد من آلية القوالب الزائفة التي يلجأ إليها صعاليك الفن ممن يرجون لأنفسهم ولو نتفاً من رصيد الشهرة المؤجلة على إن التمثيل حرفة وصنعة قابلة للاستهلاك المحلي بحثاً عن التصفيق و التهريج.
لم يرض رزاق بكل هذه التهويمات المشلولة و التوترات العضلية التي كثيراً ما تؤدي إلى الخيبة و الفشل المحسوب على ذمة السفسطائيين. قد ترى – رزاق – مسترخياً في عودة مزدوجة إلى العقل الباطن للبحث عن نشوة الدور بإطار التناسب الطردي بين القوة الخلاقة ومعاييرها وقوة الجاذبية الهدف وصولاً إلى الهدف عينه. رزاق يبحر في منجزه المسرحي غير مرعوب من نتائج النجاح و الفشل لان النهاية دائماً محسومة لديه.
كان همه الوحيد أن يبقى ربيباً حميماً للمسرح الجاد وظل معتكفا في صومعة الرهبان دون ملل يراقب بحزن عميق ورفض صوفي كل خزعبلات – المسرحيات الهرجة إلى الحد الذي يأنف حتى من نقدها إلا بمقدار جر الحسرة على ضياع الزمن وهدره لكومة من شحاذي الأدوار الهزيلة.
لقد صفق الجمهور له كثيراً وهو يحزر المراتب الأولى كأفضل مخرج من خلال مسرحية فراديس و افتراضات واهية وهديل وغيرها من لوامع الأديب الراحل رعد مطشر و المبدع قاسم حميد فنجان .

سوأي بنت آرو


قصة : قاسم فنجان

ها أنذا موشك على الانصهار من جديد في بوتقة حب خرافية ، سأمتزج بها حتماً وستصليني نار الجن أخيراًً بعشق ملتهب. آه لو تعبر تلك الماجنة الشرسة من أحلامي ، آه لو تعبر ، آه !
عبرتُ الى قاع الحلم واستحال خيالي البكر إلى ماخور لمجون الجان المجنون ، وقع ذلك في لجة النوم حينما أسرت لي شفتاها الناضجتان عن سر اللذة ، حدثتني آنذاك عن عالم النار وأشارت ملوحةً بجسدها الدخاني الى الجهات ، لم تكن ثمة جهة تشير إليها ، كانت الجهات تتعانق فيما بينها وتصب بانسياب رقيق فيها .
أدركت ذلك وأسلمت أمري واتجهت بكليتي إليها ، غصت عميقاً في لذة كينونتي الجديدة وتذوقت في أقصى أغوارها النائية ، معنى الشبق الشيطاني وقلت :
إنه ثراءٌ روحي أو ثراء روحها القادمة من أعماق الغيب ، جاءت لتدك بهوادة صروح اليأس التي تملكتني منذ لا أعلم .
كانت روحها السابتة في الظلام ، تسألني انتشالها من رماد الانتظار ، ترسل شفراتها السرية عبر وصيتها المزدانة بالطلاسم المنفوخة ، أفقؤها فيسيل العشق ملطخاً أحلامي بالنزيف ، نزيف متسربل بفوحان تتسلل عبره بذرة العشق المستحيلة الى قلبي فيضوع العقل برائحة الحرام ..
حرام إن ما أفعله حرام .. يقول عقلــــي
حلال إن ما أفعله حلال .. يقول قلبـــي
سأهرب بها فقد تزاوجت الأمكنة المعلومة بالأمكنة المجهولة أمام ناظريَّ و استحالت الى عالم آخر، عالم تغادر فيه الممسوسة عالمها و تحط بهيئة آدمية فاتنة وتقول :
هيتَ لك .
لكننا في مقبرة !
أي مقبرة ! ألا ترى الوهم ؟
أنظر في الوهم وأراها تأمر المقبرة وتقول لها كـوني غابة حمراء ، تتحول المقبرة بأمرها الى غابة حمراء وتفيض حمرتها بغزارة في المكان وتتحول المقابر فجأة الى أشجار والشواهد الى ورود.
ياللجمال ! إنني احلم ؟
لم تر الجمال بعد ، ضمني وسترى الكمال بعينه .
أضمها الى صدري بقوة وأشم ضوع جسدها والطبيعة معاً ، أذوب في لجة هذا السحر الآسر وأشاهدها تنزع عن جسدها الكثير من الأصفاد النارية ، أصغي لنباح عذريتها يدوَّي مسعوراً وأطلق الفوضى ليدي ّ لتعبث بمجمرة المشهد المستعر، تلسعني شواظ الرائحة الغريبة لسعة تدفعني للسؤال : من أنت؟
سوأى . من سوأى؟
الجميلة السمراء ، المخضبة أكفها بدم العشاق القاني ، راقصة الجان وسيدة نسائهم الساحرة، المحفوفة بطوق الشبق الملعون، مالكة الوصايا السرية وأسى القلب العاشق ، سَوْأى بنت آرو*..
زلزلني الاسم الساحر فلذتُ بوجودي الذي كان يتسع بالفراغ ، وجدتني عار قبالتها مسجى على بهاء كثيف ، أسال بنظرات حائرة عما يجري في حياتي وعما يدور في حياتها .
مصيرك.. قالت!
أنا !
أجل .. أنت مصيري .
انفلت من إسار لحظتي العصية ، احتضنت جسدها المدهون بالنعاس فانفلتت تعدو في حيز اللاممكن ، طاردتها حتى استوقفتني أصوات كانت تتقاطع في مخيلتي الهائجة ، أصوات مرعبة لشياطين وأخرى حانية لملائكة تغلي في راسي فأصيح :
يا سَوْأى ؟
تتهادى من أقاصيها عليَّ وأهمي عليها منكفئاً كالمخمور، تشدني ذراعاها بحنان فارتعش وتتناهى لي َّهمهمات شبقها الصارخ ، تمسني نداوة عشقها في الصميم فأغمض عيني وأفتحها على لغط حاد ينهال من الأعلى ، أرى جاناً يتحلقون بغضب حولي بأعقاب أقدامهم الزرقاء يحاولون فك اشتباكي بها ، يركلونني بقسوة فتفتحُ سَوأى سُؤتها لانساب كالأفعى في جوفها الدافئ ، انساب وأفتش في هالة باطنها الوردية عمن يرشدني للحال، أرى مملكتها المترامية تضيق أمامي بترانيم آسية وأنين موجع ، أصغي لنشيج الغرام المخنوق فتلسعني تأوهات حارقة ، ابكي فتفتح صندوقها المكنون لأرى قلبها المجروح ينتحب قائلاَ..
هل ترى؟
إنني أرى!
ماذا ترى؟
موتك يا سوأى مكتوب على رقائق القلب بحبر النار!
وبعد ؟
انه معلق كالمصير على جدران روحي الهائمة !
تهجاه أذن؟ لملمته بحنو وتهجأته بدقة ، كانت شفراته السرية تخرق العقل وتشير الى مالا تدركه البصيرة المهترئة، اعجز عن قراءته فأجمع الترانيم بوجع وأنشجها بوجع أشد حتى تكتمل في النهاية الوصية العجيبة، وصية توحي مضامينها المجهولة بالسر الغريب الذي جاء على الورقة هكذا :
!!!!!!!!!!!.....*.......؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ما هذا الطلسم العجيب ؟
انه سفرك يا مجنون .
حملتني الممسوسة بي في داخلها سراً ، ماجت بيَّ في عوالمها المسحورة ودعتني لأرى من مسام جلدها الشفيف مملكة الجان، أشاهد عن كثب عالمها المزحوم بالأحلام وارى نساء بلدتها العاريات وأطفالها الفاتنين ، أصغي للغو شيوخهم الطيبين وعجائزهم الاطيب ، أنسحر بالطبيعة الخلابة لهم ويسكرني ضوعها الفريد، أنسى عالمي الناشف وأتجاوز عن ذكرياته السوداء ثم أمضي مزهواً في باطنها الشاسع ملتذاً بسفري الجديد، ارقص بجنون من شدة الفرح وغبطة السرور فتلجمني مواعظها وتكبحني بالعهد : إياك أن تفضح السر ؟
ما السر يا سوأى؟
سرنا العجيب وسفرنا الأعجب .
منحني سر حبها السطوة على حياتها حتى صارت مع تقادم زمنها اللامحسوب مطية سهلة لي ،تنقاد لرغباتي منصاعة كالعمياء لقلبها الذي يديره قلبي ، أغار عليها فأأمرها بالكف عن الرقص ،تكف ُ وينثار الجان لعزوف راقصتهم الأولى عن الرقص ،يشرعون بممارسات قاسية ويرسلون مردتهم وعلى ظهورهم سلال مملؤة بالدموع ، يسفحونها أمامها فتسيل بألم وتمس قلبي فأبكي وتبكي لبكائي،يستمع العفاريت لبكائها المر فيأتون وعلى رؤوسهم سلال الرجاء الثقيلة ،يدلقونها فتنهمر دموع الجان بغزارةً وتُغرق جسدها الرقيق بالطوفان المر، تغرق سَوْأى وأستمع من جوفها لصوت عذابها يتردد عالياً..
العهد ! انقض العهد من الخوف وأحاول الانفلات من طوق جسدها الرحيم ،أرتطم بأبواب مشاعرها الموصدة وتلطمني أمواج لوعاتها العاتية ، أتراجع مندحراً الى قلبها المحتضر، أعصره بكلتا يديَّ فتصرخ من الحب .. آه ..
يدويّ تأوهها الموجع صارخاً في فضاء الجان وتمتصه أفئدة الجنيات الظامئة ،يربكهنّ عشقها المخبول ويتسلل أساه الثقيل الى قلوبهن جميعاً، يبكين َّ عليه ويتآزرنَّ معها وينفصم عالم الجن الواحد، يهجرن الجنيات عالمهن َّغير آسفات الى عوالم الأنس العاشقة ، مربكات النظام الآدمي بفوضى غرامية ساحقة فوضى تحفز الرجال الإنسيين على الهيام وتدفعهم ليغادروا غير نادمين أحضان نسائهم الآمنة متوجهين الى المقابر والمزابل، حيث تكمن لهم هناك إناث الجن عاريات يشبعنَّ بسخاء شبقهنَّ اللامحدود..
حلت لعنة السوأى على أهلها وانتبه الملك للكارثة والعار وانقلاب الحال المخزي ،استدعى أمراء الشياطين وأمرهم بقذف بدنها العائم في طوفان الدمع بالرقى والتمائم ، أمر جبابرة العفاريت بمحاصرتها وأوعز لطغاة المردة بخنقها، خنقوها فتجلى لهم السر من باطنها واضحاً كالروح .
كان السر المكنون في قلبها أنا ، أنا الذي أطالع الفوضى بأسى واستشعر النهاية بخوف ، أرنو من قيعانها للأكف العملاقة وهي تقبض بوحشية على أنوار جسدها المتوهج ، أراها تدك أسوار مشاعرها الصامدة وتحاول الوصول الى قلبها الحصين تصمد سَوْأى إزاء سيل البطش العارم وتبقي على عهدها صائتةً :- أُحبكَ .
يزعزع صبرها بأس الجان العتيد فيستنجدون بملكهم الغاضب يغضب الملك و يأمر ملائكة الجان بانتزاع روحها المكابرة يتفقون على موتها و يتقدمون صوبها جميعاً ، يتحلقون حول روحها و يشهرون من أجرام الغيب شهب الماء الجامدة يسوطونها بها فتتداعى بوجع شديد ، تنكسر سوأى و تهوي منكفئة على قلبها ، يوجعني انكفاؤها المؤلم فأصرخ .. آه .
تسمعني و تضم جناحي قلبها بحنو على قلبي، تطلقني من جسدها المندحر عالياً فأفر بقلبينا الخائفين من الموت صوب السماوات، أصل و أطالع من هناك احتضارها الثقيل، أرى جسدها المشتعل بالعشق ينطفئ بالتدريج ويستحيل الى شواظ عاشق، تستنشقه رئة الهواء و تزفره بقوة لتحل اللعنة على الجان ..

(*) وهمٌ أعلن لي عن نفسه بهذا الاسم في أحد كوابيسي الليلية.

مكتبتي التركية بقلم : اورهان باموك

نواة مكتبتي الخاصة هي مكتبة أبي . بين السابعة عشرة والثامنة عشرة من عمري حين بدأتُ أمضي معظم وقتي في قراءة الكتب، بدأت بغزو مكتبة أبي في صالون البيت مثلما كنت أغزو بائعي الكتب في
اسطنبول. في تلك الفترة بدأتُ أنقل كل كتاب قرأتُه فأعجبني، من مكتبة أبي إلى مكتبتي الخاصة في غرفتي، ليستقر على رفوفها بين مقتنياتي الخاصة ، حينئذ كان أبي يشعر بالسرور من إقبال ابنه على قراءة الكتب، فكان يفرح حين يرى بعضاً من كتبه وقد انتقل إلى مكتبتي، وكلما رأى أحد كتبه القديمة في موقعه الجديد على أحد رفوف مكتبتي، علّق عليّ مداعباً : "أووه ! تم قبول هذا المجلد أيضاً في المقام الرفيع!
في عام 1970، حين كنت في الثامنة عشرة من عمري، مثلي مثل أي شاب تركي يهوى المطالعة بدأت أكتب الشعر . كنت أدرس فن العمارة وأشعر مع مرور الوقت أنني أفقد متعة الرسم ، فكنتُ أكتب قصائد الشعر وأدخن السجائر ليلاً بعيداً عن الأنظار. في تلك الفترة قرأتُ جميع كتب الشعر التركي في مكتبة أبي الذي كان يرغب، في شبابه، أن يصبح شاعرا. أحببتُ تلك المجموعات الشعرية ذات السماكة الضئيلة والأغلفة الباهتة لشعراء دخلوا تاريخ الشعر التركي تحت عنواني "تيار التجديد الأول" (جيل 1940 و 1950) و"تيار التجديد الثاني" (جيل 1960 و 1970) وكلما قرأت تلك المجموعات أحببتُ أن أحذو حذوهم في كتابة الشعر. الشعراء المجددون الأوائل أورهان ولي ومليح جودت وأوكتاي رفعت، الذين أدخلوا لغة رجل الشارع البسيطة وروحه المرحة إلى الشعر التركي الحديث، وأداروا الظهر للخطاب الشكلي للغة الرسمية المتأتية من عالم قمعي تسلطي ، نشروا مجموعة شعرية مشتركة عنوانها "غريب"، فبات هذا العنوان اسماً يُطلَق على التيار الشعري الذي مثّلوه . كان يحدث أحياناً أن يلتقط أبي إحدى المجموعات الشعرية لأحد هؤلاء الشعراء، في طبعتها الأولى، من رفوف مكتبته، ويقرأ علينا بصوت مرتفع وطريقة في الأداء تؤكد أن الأدب هو أحد أكثر ميادين الحياة روعة ً، بضع قصائد ساخرة ومرحة تثير فينا البهجة والسعادة .
أما تيار المجددون الثاني الذي يعد امتداداً للتيار للأول، فقد تخلص شعرهم نبرات التصوير والسرد، وبدا توصلهم الى ما هو أقرب إلى الدادائية والسوريالية حيناً، واتسام هذا الشعر حيناً آخر بشيء من الفوضى والتزويق اللغوي اللذين أثارا حماستي. كنت أقرأ أولاء الشعراء (جمال ثريا وتورغوت أويار وإلهان برك، وقد رحلوا جميعاً) الذين كان شعرهم عصيا على الفهم ومؤثراً معاً، فأحس بسذاجة من يشاهد لوحة تجريدية فيذهب به الظن إلى أنه باستطاعته رسم لوحة مشابهة لها . مثل هذا الرسام الذي شاهد لوحة جميلة واعتقد أنه فهم كيفية رسمها فهرع الى مشغله ليرسم لوحة مثيلة لها ، كنتُ أحاول كتابة قصيدة فوراً، بل وأجلس أمام الطاولة وأكتبها فعلاً . فكل ما كان خارج أعمال التيارين المذكورين من الشعر التركي (باستثناء عدد قليل جداً من القصائد والأبيات الجميلة والمتميزة) لم يثر اهتمامي لأنه يعد شعراً بل كان يشدني كمسألة ثقافية عقلية بحتة، بسبب لغته المسطحة والبعيدة عن لغة الحياة اليومية . ما الذي كان على الشاعر المحلي أن يحميه من التقاليد المترنحة وكيف، وهو تحت وطأة التأثير الساحق للحداثة وأوروبا ولنزوع التشبه بها ؟ بأيّ طريقة كان لنا أن ندخل في قصيدة حديثة، جماليات شعر الديوان ومراوغاته الأدبية التي ابتكرتها النخب العثمانية بفعل المؤثرات الأدبية الإيرانية، تلك الجماليات والمراوغات التي ما كان في مقدور الأجيال الجديدة فهمها إلا بمساعدة المعاجم وكتب التفسير؟ هذه الأسئلة التي شاع التعبير عنها بعبارة "الاستفادة من التراث"، شغلت أدباء جيلي بقدر ما شغلت أبناء الجيل الذي قبلي. بفضل الشعر العثماني القوي الذي لم يتعرض للمؤثرات الغربية، بفضل تراثه الممتد لمئات السنين، تسنّى لنا مناقشة المشكلات الأدبية والفلسفية، بيسر وراحة، بالانطلاق من الشعر. كان عدم وجود تراث نثري وروائي، يؤدي بالروائيين الأتراك المنشغلين بهواجس المحلية في الشكل والأسلوب، الى الالتفات نحو الشعر. في أوائل السبعينات، حين اندلعت حماستي للشعر ثم انطفأت بالسرعة نفسها، لأقرر بعد ذلك التحول إلى الكتابة الروائية، كان الشعر يعدّ، في تركيا، الأدب الحق، في حين عدّت الرواية جنساً شعبياً ذا قيمة أقل. ليس من الإجحاف القول إن السنوات الخمس والثلاثين المنقضية، منذ ذلك الوقت، شهدت ارتفاعاً في اعتبار الرواية وأهميتها، مقابل خسارة الشعر للأهمية التي كان يتمتع بها. ففي غضون الفترة المذكورة ازداد عدد قراء الأدب وتوسعت صناعة الكتاب بسرعة مدهشة.
حين قررت أن أصبح كاتباً ً، كان المفهوم الأدبي المهيمن في ميداني الشعر والرواية معاً، لا يولي اهتمامه لتعبير الفرد بالكلمات عن نفسه وروحه وطرافة تجربته الخاصة، بقدر اهتمامه بالكاتب المنتمي إلى فرقة أو جماعة أو عصبة من الزملاء ومدى مساهمة مع رفاقه في أخيلتهم أو في تحقيق يوتوبيا اجتماعية ما (الحداثة أو الاشتراكية أو الإسلام أو القومية أو النزعة الجمهورية العلمانية، إلخ...). إن رائز الاستفادة من التاريخ والتراث لم يشكل قط مشكلة بالنسبة الى الكتاب الخلاّقين في بحثهم عن الجنس الأدبي الأكثر ملاءمة بالنسبة اليهم. انصب الاهتمام، بدلاً من ذلك، على حلم خلق مجتمع المستقبل السعيد والمتآلف، بل خلق الشعب أو الأمة، بالعمل يداً بيد مع الدولة. أفكر أحياناً أن الأدب الحداثي المتفائل، في شقيه "الجمهوري – العلماني – التنويري" و"المساواتي – الاشتراكي" سواء بسواء، قد اشتطّ في تركيز نظره على المستقبل إلى درجة فقد فيها القدرة على رؤية روح التغيرات والتحولات الجارية طيلة القرن المنصرم ، في أزقة اسطنبول وبيوتها. لطالما بدا لي أن الكتّاب الذين صوّروا الحياة التي نعيش بدقة أكثر، ليسوا أولئك الذين اهتموا بحماسة بكيفية ايصال تركيا إلى مستقبل مشرق. بل صنفان من الكتّاب، أولهما أولئك الذين عبّروا عن الحنين إلى الماضي، إلى ثقافة طواها الزمان، كأحمد حمدي تانبنار وعبد الحق شناصي حصار، وثانيهما أولئك الذين أحبّوا شعرية أزقة اسطنبول وحيويتها، من غير أحكام مسبقة، كأحمد راسم وسعيد فائق وعزيز نيسين .
بعد بدء انطلاق رحلة التغريب والحداثة، تمثلت المشكلة الرئيسية بالنسبة الى جميع الآداب غير الغربية في العالم وليس الأدب التركي وحده في صعوبة التوفيق بين الرؤى المستقبلية وألوان الواقع الراهن، بين الحلم بدولة حديثة وإناس متحضرين ، وبين متع العيش في عالم تقليدي موجود في الواقع . الكتّّاب الذين حلموا بمستقبل تزمتي ، كثيراً ما انخرطوا في معارك سياسية وصراعات من أجل السلطة، أودت بهم إلى السجون، فاتسمت نبراتهم وملاحظاتهم بالقسوة والمرارة .
كانت في مكتبة أبي المجموعات الشعرية المبكرة لناظم حكمت التي صدرت في الثلاثينات، قبل اعتقال الشاعر . بقدر ما تأثرتُ بنبرة الغضب والأمل والإيمان بمستقبل مشرق المبثوثة في تلك القصائد، وبقدر اعجابي بها لتأثرها بالتجديد الشكلي فيها المستوحى من المستقبليين الروس، أثر في أيضاً الشقاء الذي كابده الشاعر في السجون، وبالحياة داخل تلك السجون التي قرأتُ عنها في مذكرات ورسائل كتّاب واقعيين شاركوا ناظم حكمت فترات من سجنه كأورهان كمال وكمال طاهر. إن كتب مذكرات المثقفين والصحافيين الأتراك ممن تعرضوا للسجن ، والروايات والقصص التي تدور حوادثها في السجون، تشكل مكتبةً قائمة بذاتها. لفترة من الفترات .
قرأتُ أدب السجون بكثافة جعلتني أعرف عن الحياة اليومية في العنابر ، وتلك اللغة الخاصة بالسجناء التي أحببتها كثيراً، وقواعد "الفتونة" داخل الردهات، كما لو أنني خبرتُ السجن بنفسي . بدا لي في تلك الفترة كما لو كانت حياة الكاتب تجري في دار تحرس الشرطة بابها بصورة دائمة، ويخضع فيها الكاتب للمراقبة الدائمة من الشرطة السرية، ويتم التنصت على مكالماته الهاتفية، ولا يستطيع الحصول على جواز سفر، ويكتب إلى حبيبته من سجنه رسائل مؤثرة وقصائد جياشة . هذه الحياة التي عرفت بها من الكتب لم أتشوق البتة لأحياها بنفسي، لكني وجدتها رومنطيقية . حين كابدتُ مشقات مماثلة بصورة طفيفة، بعد ثلاثين عاماً، وجدتُ أن وضعي أهون بكثير من وضع أولئك الكتّاب الذين قرأت عنهم في سنوات شبابي، بتوجس وبشيء من الاستغراب والرومتنطيقية وهكذا وجدت عزائي .
المفهوم التنويري والنفعي الذي يرى في الكتب ما يعدّنا لخوض غمار الحياة ومشقاتها، لم أتحرر منه، للأسف، إلا قليلاً. ربما يعود ذلك إلى أن سير حياة الكتّاب في تركيا أثبتت صحته على الدوام. والسبب الأهم هو أنه لم يكن، في تركيا في تلك الفترة، مكتبات كبيرة، يمكن المرء أن يعثر فيها بسهولة على أي كتاب يبحث عنه. ثمة وراء حلم المكتبة التي تخيلها بورخيس، حيث يكتسب كل كتاب فيها طابعاً سحرياً ملغزاً، فتكتسي المكتبة في مجموعها بحالة من الشعرية واللامحدودية الميتافيزيقية المناسبتين لفوضى العالم المحسوس، مكتبات ضخمة فيها أعداد هائلة من الكتب لا يمكن عدّها أو قراءتها. كان بورخيس مديراً لمكتبة من هذا النوع في بوينس أيريس. أما في اسطنبول وفي تركيا، فلم يكن ثمة مكتبة واحدة من هذا النوع مفتوحة للمهتمين، في سنوات شبابي. أما الكتب الأجنبية فلم توجد في أي مكتبة من المكتبات العامة في تركيا. إذا أردتُ أن أعرف كل شيء وأصبح شخصاً ذا معارف واسعة وعميقة، وإذا أردتُ التحرر من الحدود الخانقة للأدب القومي الذي تحميه الجماعات والأطر الصداقية والدبلوماسية الأدبية والمحظورات، كان عليَّ أن أبني بنفسي مكتبتي الخاصة الكبيرة. في الفترة الفاصلة بين 1970 و1990، بات شغلي الأهم، بعد الكتابة، هو شراء الكتب ليتسنى لي بناء مكتبة تضم جميع الكتب المهمة والمفيدة. كان أبي يمنحني مصروف جيب جيداً. منذ الثامنة عشرة من عمري وأنا أزور مرة في الأسبوع سوق الصحافين في منطقة بيازيد في اسطنبول. كنتُ أمضي ساعات وأياماً في ذلك الزقاق حيث تصطف على الجانبين مكتبات صغيرة امتلأت عن آخرها بأعمدة من كتب لم يستطيعوا تصنيفها، وتتم تدفئتها بصعوبة بوساطة مدافئ كهربائية صغيرة، ويزدحم ببشر ينم مظهرهم عن الفقر الشديد، سواء في ذلك أصحاب دكاكين الكتب أو بائعو البسطات أو الزوار العاديون من هواة اقتناء الكتب. كنتُ أدخل أحد تلك الدكاكين التي تبيع الكتب المستعملة، وأتفحص جميع الرفوف والكتب المعروضة عليها، فأختار كتاباً أشتريه بعد مساومة على ثمنه مع البائع. قد يكون الكتاب الذي اخترته كتاباً تاريخياً يتحدث عن العلاقات العثمانية – السويسرية في القرن الثامن عشر، أو مذكرات رئيس الأطباء في مشفى باقركوي للأمراض العقلية، أو شهادة صحافي عن انقلاب عسكري انتهى إلى الفشل، أو كتاباً في فن العمارة يتحدث عن المباني العثمانية في مقدونيا، أو مختارات تركية من ملاحظات سائح ألماني زار اسطنبول في القرن السابع عشر، أو أفكار أستاذ جامعي في كلية الطب في جامعة تشابا حول الميول الفصامية والعصاب الوسواسي، أو ديوان شاعر عثماني نسيه الجميع مترجماً إلى التركية الحديثة ومزوداً شرحاً، أو منشوراً دعائياً مصوراً بالأسود والأبيض عن إنجازات محافظة اسطنبول في الأربعينات في مجال تعبيد الشوارع وتشييد المباني وإقامة الحدائق. في البدايات الأولى كنتُ أجمع كل الأعمال الأدبية الكلاسيكية العالمية والتركية (الأصح القول عن هذه الأخيرة "الكتب المهمة"). أما الكتب الأخرى، فقد اعتقدتُ أنني لا بد أن أقرأها ذات يوم، مثلها مثل الأعمال الكلاسيكية. حتى أمي القلقة عليَّ من كثرة القراءة، كانت تلاحظ أن عدد ما أشتريه من الكتب يفوق كثيراً قدرتي على قراءتها، فتقول لي متأففة: "لا تذهب لشراء المزيد قبل الانتهاء من قراءة ما اشتريته هذه المرة على الأقل".
لم أكن أشتري الكتب كهاوٍ لجمعها، بل كمن يريد قراءتها جميعاً في مقبل الأيام ليتمكن من فهم معنى العالم وسبب الفقر والمشكلات العويصة في تركيا. في العشرينات من عمري لم أكن قادراً على إعطاء جواب شاف لزملائي ممن كانوا يزورونني في بيت ذويّ ويلاحظون امتلاء غرفه المطرد بالكتب، فيسألونني عن سبب ولعي باقتنائها. ترى هل كنتُ مهتماً حقاً وأملك من الفضول ما يكفي لأقرأ كامل صفحات كتاب يتحدث عن رمزية البيت في "حكايات غوموشهانة الخرافية"، أو خلفيات تمرد أدهم الشركسي على أتاتورك، أو الجرائم السياسية في عهد المشروطية الثانية، أو قصة الببغاء التي أرسلها السفير العثماني في لندن إلى السلطان عبد الحميد الثاني في اسطنبول بناء على طلب هذا الأخير، أو نماذج رسائل الغرام من أجل الخجولين، أو تاريخ استيراد القرميد المرسيلي إلى تركيا، أو المذكرات السياسية للطبيب الذي أنشأ أول مشفى للسل في تركيا، أو تاريخ الفن الغربي في كتاب من مئة وخمسين صفحة نشر في الثلاثينات، أو الملاحظات المكتوبة التي أملاها مفوض الشرطة على طلاب مدرسة الشرطة حول وسائل التعامل مع حالات صغيرة من خرق القانون في الشارع كالسلب والنصب وإطلاق الشتائم، أو مذكرات رئيس جمهورية سابق في ستة مجلدات محشوة بالوثائق، أو أثر أخلاقيات طوائف الحرف في الحقبة العثمانية على المشاغل الحديثة الصغيرة، أو تاريخ الطريقة الجراحية وأسرارها ومشايخها، أو مذكرات رسام منسي في باريس الثلاثينات، أو الألاعيب التي كان التجار يلجأون إليها لرفع أسعار البندق، أو النقد العنيف الصادر عن حركة ماركسية تركية مناصرة للسوفيات ضد حركة مناصرة للصين وألبانيا في خمسمئة صفحة، أو التحولات التي تعرضت لها مدينة أريلي بعد بناء مصانع الفولاذ فيها، أو كتاباً للأطفال بعنوان "مئة من أعلام الترك"، أو قصة حريق آق سرايا في اسطنبول، أو مختارات مما نشره صحافي طواه النسيان تماماً، في زاويته اليومية في فترة ما بين الحربين العالميتين، أو تاريخ ألفي عام لمدينة صغيرة في الأناضول، قد لا أتمكن من العثور على موقعها على الخريطة من النظرة الأولى، حشر في كتاب من مئتي صفحة، أو مزاعم معلّم مدرسة متقاعد توصل إلى معرفة قاتل كينيدي من قراءته للصحف التركية، وهو الذي لا يتقن الإنكليزية؟ في السنوات اللاحقة لن أستخف بهذه الأسئلة ولا بالسؤال الذي سأواجهه بكثرة، عما إذا كنت قرأت كل تلك الكتب، وسوف أجيب قائلاً: "نعم، حتى إذا لم أقرأها جميعاً، لا بد أن تنفع في شيء ما".
كما يمكن الفهم من هذه الطريقة الجدية في الجواب، كانت علاقتي بالكتب، إبان شبابي، محدودة بنظرة شخص وضعاني متفائل لن يرحمه الزمان، يعتقد أنه سيمتلك العالم بوساطة المعرفة. كنت أعتقد أن من المحتمل أن أستخدم ما أراكمه من معلومات في إحدى رواياتي. كان بي شيء من دأب البطل العصامي لرواية "الغثيان" لجان بول سارتر، ذاك الذي يقرأ جميع الكتب في المكتبة العامة في إحدى المدن، وشيء من بيتر كلاين، بطل رواية "العمى" لإلياس كانيتي، ذاك الذي يفخر بكتبه ويستمد القوة منها كقائد عسكري يتباهى بجيشه. لم تكن فكرة المكتبة على الطريقة البورخيسية بالنسبة اليَّ، حلماً ميتافيزيقياً يوحي بلانهائية العالم، بقدر ما كانت تلك المكتبة بالذات التي جمعتها كتاباً كتاباً في بيتي في اسطنبول. كنت أقتني بلا تردد كتاباً عن الأسس القانونية للاقتصاد الزراعي في الإمبراطورية العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. من هذا الكتاب إنما عرفت بوجود النمور في الأناضول، في ذلك الزمان، وأنا أقرأ فيه عن طريقة تحديد الضرائب على فراء النمور. وعرفت من المجلدات الثقيلة التي تضم رسائل الشاعر التركي المكافح الوطني الرومانسي ذي النبرة التربوية نامق كمال (فيكتور هوغو الأدب التركي) التي كتبها من منافيه العديدة، أن شاعرنا الأسطوري هذا كان ذا لسان لاذع شتّام، وشخصية لا يستغنى عنها في الكتب المدرسية والنكات البذيئة للتلاميذ. حين كنت أقع بالمصادفة على كتاب مذكرات سياسية ممتع لنائب سابق دخل السجن، أو كتاب يتحدث فيه موظف شركة تأمينات عن أغرب ما صادفه في حياته المهنية من حوادث السير أو الحرائق، أو كتاب مذكرات ديبلوماسي متفرنج يصادف أن ابنته زميلتي في المدرسة، لم أكن أتردد لحظة واحدة في شرائها. كلما ازداد تعلقي بالكتب، خسرت من حياتي شيئاً، وكلما أدركت خسارتي هذه، انتقمتُ لحياتي الضائعة بشراء مزيد من الكتب. الآن، بعد مرور سنوات طويلة، أدرك الساعات الممتعة التي أمضيتها في تلك المكتبات الباردة، وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع البائع الذي يقدّم اليَّ كأساً من الشاي، أو أنقب في أعمدة الكتب العتيقة المغبرة.
بعدما أمضيت نحو عشر سنين في سوق الصحافين حيث بائعو الكتب المستعملة، حيث أشبع فضولي من المشاهدة والتنقيب، أي في أواخر عقد السبعينات، وصلت إلى اقتناع مفاده أنني رأيت جميع الكتب المنشورة بالأحرف اللاتينية، منذ قيام الجمهورية إلى حينه، وتصفحتها. فقد كنت أفترض أحياناً أن ما نشر بالتركية، في غضون خمسين سنة، بعدما انتقل الشعب بأسره، في عام 1928 بناء على رغبة أتاتورك، من الأبجدية العربية إلى الأحرف اللاتينية، لا يتجاوز في مجموعه خمسين ألف كتاب. من المحتمل أن هذا الرقم تجاوز بالكاد المئة ألف، في عام 2008. لعل الخطة السرية الكامنة وراء جشعي في شراء الكتب، تمثلت في الرغبة بجمع كل تلك الكتب في مكتبتي في البيت. لكني كنت أقتني الكتب غالباً بحافز داخلي ابن اللحظة. كان ثمة شبه بين شرائي للكتب، كتاباً بعد كتاب، ومن يبني بيتاً، حجراً فوق حجر.
في بداية الثمانينات، رأيت من يفعلون مثلي، سواء عند بائعي الكتب العتيقة أو في المكتبات الكبيرة في اسطنبول. إني أتحدث عن أولئك الذين يمرون بالمكتبة في الخامسة أو السادسة مساءً، ويسألون البائع عن أحدث ما وصل إليه من كتب، ويتصفحون جميع الكتب الجديدة التي يعرضها عليهم. في الثمانينات كان ينشر في تركيا كل سنة نحو ثلاثة آلاف كتاب وسطياً، ومن المحتمل أن هذا الرقم قد ارتفع اليوم إلى ثلاثة أمثاله. وكان نحو نصف تلك الكتب التي رأيت القسم الأعظم منها، ترجمات من اللغات الأخرى. لم يكن يستورد الكثير من الكتب من الخارج، فكنت أسعى للاطلاع على تطورات الآداب العالمية من خلال تلك الترجمات، وأكثرها يفتقر إلى العناية ويتم إنجازها على عجل.
في السبعينات كانت المجلدات التاريخية السميكة التي تعنى بالتنقيب في جذور تخلف تركيا وفقرها وأزماتها السياسية والاجتماعية، هي النجوم المتألقة على رفوف المكتبات. كتب التاريخ هذه الحديثة والطموحة، المكتوبة بلغة مشحونة بالغضب، كانت بخلاف كتب التاريخ العثماني القديمة – وكان يعاد طباعتها مجدداً بالأبجدية التركية الحديثة، وقد اشتريتها جميعاً -، لا تحمّلنا كثيراً مسؤولية الكوارث التي ألمّت بنا، بل تفسر فقرنا وجهلنا وتخلفنا إما بفعل قوى خارجية وإما بفعل حفنة من الأشرار الفاسدين بين ظهرانينا. لعل تلك الكتب كانت تجد جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين لهذا السبب بالذات. اشتريت أيضاً جميع كتب التاريخ والمذكرات والروايات التي تبرهن على وجود سر أو مؤامرة دنيئة أو لعبة مدبرة من القوى العالمية وراء الكثير من الانقلابات العسكرية في التاريخ القريب، والحركات السياسية، والهزائم العسكرية في السنوات الأخيرة من الامبراطورية العثمانية، والاغتيالات السياسية التي لها أول وليس لها آخر. اشتريت جميع الكتب التي كتبها معلمون متقاعدون عن تواريخ المدن، وإما نشروها بأنفسهم وإما نشرتها لهم البلديات، وكتب مذكرات لأطباء حالمين أو مهندسين أو جباة ضرائب أو ديبلوماسيين أو سياسيين، وقصص حياة نجوم السينما ونجماتها، وكتباً عن الطرق الصوفية ومشايخها، والمجلدات التي تفشي أسرار الماسونية وأعلامها، وجميع الكتب التي فيها شيء من المرح والحياة والواقع، أو شيء من تركيا على الأقل.
في سنوات طفولتي قرأتُ بحب شديد الكتب التي كتبها عن أتاتورك أصدقاؤه المقربون. بخلاف هذه الكتب التي ألّفها أشخاص عرفوا أتاتورك عن قرب وأحبّوه، تحولت صورته لدى الأجيال اللاحقة، بفعل المحظورات التي منعتنا من رؤية الجوانب الإنسانية في شخصيته والكتابة عنها، إلى صورة إنسان فائق وسلطوي، وكثيراً ما تمت إساءة استخدام اسمه لشرعنة ضروب القمع والمحظورات السياسية. من المحال اليوم، بسبب الممنوعات المطبقة في تركيا، أن يتحدث المرء عن أتاتورك، في إحدى الروايات، كشخص طبيعي، أو يؤلف سيرةً مقنعة عنه، من غير أن يحال على القضاء. مع ذلك تؤلَّف عنه مئات الكتب سنوياً. ربما لأن الممنوعات تبسّط الموضوع العويص والمتشابك فتريح المؤلف، كما هي الحال في الكتب التي تتناول الإسلام.
في منتصف السبعينات، حين تخليتُ عن أحلامي المتعلقة بالرسم والهندسة المعمارية وقررت احتراف الكتابة الروائية، كان ينشر في تركيا ما بين أربعين وخمسين رواية في السنة. كنت أراها جميعاً، وأشتري القسم الأكبر منها لعلّها تنفع ذات يوم، وأتصفحها قليلاً من أجل ما تنطوي عليه من تفاصيل الحياة في القرية، ومشاهد إنسانية من الريف، وشرائح من الحياة في اسطنبول وتركيا، أكثر من اهتمامي بقيمتها الأدبية. الناقد الشهير في الخمسينات نور الله أتاج الذي كان يدافع، من جهة أولى بالصوت العالي، عن محاكاتنا للحضارة الغربية، وفي الأخص الثقافة الفرنسية، ولا يتمالك نفسه، من جهة أخرى، من الاستهزاء بما يقترفه أولئك الكتّاب ممن ينقصهم التراكم الثقافي من أخطاء، حين يتنطحون لمحاكاة الفرنسيين، كتب يقول إنه علينا، في بلد مثل تركيا، شراء الكتب التي تنشر دعماً للكاتب والناشر. وقد عملت بنصيحته هذه.
وأنا أقرأ تلك الكتب أو أتصفحها، كنتُ أحس، من جهة أولى، بمتعة الانتماء إلى ثقافة وتاريخ، وأفكر، من جهة ثانية، في الكتب التي سأكتبها في مقبل الأيام، فأشعر بالسعادة. لكنني كنتُ في بعض الأحيان، أستسلم لتشاؤم وكآبة خطيرين. كانت أخطاء الطباعة الكثيرة في أحد الكتب، وعدم انتباه كاتبه وناشره إليها، يشتتان تركيزي، ويثير حزني كتاب آخر لأن موضوعه الغني الذي يمكن معالجته بصورة حاذقة، تم قتله بسبب تسرع الكاتب وغضبه وحماسته. على كل حال، كنت أجد الموضوع على شيء من السخف ومثيراً للشفقة وكنت أشعر بالحزن لأن هذا الكتاب السخيف والبخس لاقى استحسان القراء، أو لأن ذاك الكتاب اللافت والساحر لم يلحظه أحد.
كانت هذه المشاعر جميعاً تثير فيَّ قلقاً أكبر وأعمق، فتتضخم في ذهني وتتكاثف غيمة الريبة المدمرة التي يصارعها جميع المتعلمين في البلدان الواقعة خارج حدود الغرب، طيلة أعمارهم: ترى ما أهمية معرفة وجود النمور في الأناضول في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؟ أو ما معنى معرفة أثر الأدب الهندي في شعر آصف خالد تشلبي الذي يكاد القارئ التركي نفسه لا يعرفه معرفة جيدة؟ ولم أر أهمية تذكر في معرفة أن وراء حوادث السادس والسابع من أيلول 1955، حين اعتدى الرعاع على بيوت الأقليتين الأرثوذكسية واليهودية ومحالهم التجارية في اسطنبول ونهبوها، وقتلوا القساوسة، أجهزة الاستخبارات السرية التركية، كما الإنكليز الذين عارضوا تبعية قبرص التامة لليونان. كذلك لم أر أي أهمية في قراءة الحديث الذي تبادله أتاتورك مع شاه إيران أثناء الجولة في مضيق البوسفور. كنت أشعر بخواء الجهود التي بذلها أولئك الذين كتبوا، في مواضيع من هذا النوع، أبحاثاً أو روايات أو كتب تاريخ. كنتُ في فترات التشاؤم، أشعر بالقلق على "أهمية" ما أحتفظ به في مكتبتي بنجاح من تفاصيل تاريخ بطوله وثقافة ولغة بكاملهما، مثلي في ذلك مثل بطل روايتي الثانية فاروق، ذلك المؤرخ الذي قرأ في أرشيف الدولة العثمانية وثائق تغطي مئات السنوات، ويحفظ جميع الوقائع في ذهنه، لكنه لا يقيم أي علاقات في ما بينها. ما هي أهمية أن نعرف اليوم من الذي أشعل حريق إزمير الكبير؟ وكان يبدو لي أن الأسباب الكامنة وراء الانقلاب العسكري في 27 أيار 1960، أو تأسيس الحزب الديموقراطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا تثير اهتمام أحد سوى بضعة أشخاص من أمثالي. ترى أكان ذلك بسبب فرط التسييس في الثقافة التركية، أم لأن الحياة في البلد كان يعبّر عنها غالباً من خلال السياسة، أم أن الشعور بالريفية أو الهامشية بالقياس إلى المركز الغربي، كان يقلل من شأن المكتبة القومية في نظر أبناء البلد؟
ثمة فكرة كثيراً ما أقلقت راحتي مع شعور بالخواء والبؤس، مفادها أن الوقائع والظواهر المذكورة في الكتب التي جمعتها بإخلاص في غرف بيتي، لا تتمتع بما يرضيني من أهمية بالنسبة الى البلدان الأخرى خارج تركيا. وإذا كانت فكرة أنني أعيش في مكان على هذه المسافة الشاسعة من مركز العالم، أقلقت راحتي أحياناً، في العشرينات من عمري، فإن هذا الشعور لم يحل دون حبي الشديد لمكتبتي. حين سافرت إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى، في الثلاثينات من عمري، ورأيت غنى المكتبات الأخرى وغنى الثقافة العالمية، آلمتني معرفة ضآلة ما يعرفه العالم من المكتبة والثقافة التركيتين. منحني هذا الألم، في الوقت نفسه، القدرة على التمييز، ككاتب روائي، بين ما هو أساسي وما هو عارض في الثقافة وفي مكتبتي، فكان تنبيهاً لي لأنظر بعمق أكثر إلى مكتبتي والحياة معاً.
في رواية "البطء" لميلان كونديرا، ثمة شخصية تتحدث، في مؤتمر ذي طابع دولي، عن بلدها تشيكيا كلما سنحت لها الفرصة ، فتصبح لهذا السبب موضع سخرية . يتم الاستخفاف بهذه الشخصية ، عن حق ، لأنها لا ترى شيئاً أو تفكر في شيء خارج بلدها، ولا ترى العلاقة بينه وسائر العالم والبشرية . لكنني تماهيت، وأنا أقرأ "البطء"، مع ذلك الشخص المضحك، لا مع من عاملوه باستخفاف، ليس لأنني أردت أن أكون مثله ، بل كي أختلف عنه . فقط في عقد الثمانينات أدركت أنه يمكنني أن "أصبح أنا نفسي"، لا بالاستخفاف ببؤس ذلك الشخص الذي سمّاه نايبول "الرجل التقليد" بسبب ما فعله للتخلص من ريفيته وإذلاله، بل بالتماهي معه وفهمه، إذا استخدمتُ كلمات استخدمتها شخصيات روايتي "الكتاب الأسود".
لم يقع الأتراك ضحية الاستعمار الغربي في أي فترة من تاريخهم لذلك لم يعنِ تقليدنا للغرب، كما أراد لنا كمال أتاتورك، شيئاً مهيناً أو مذلاً كما يوحي كونديرا أو نايبول أو إدوارد سعيد، بل بات جزءاً لا يتجزأ من الهوية القومية التركية . الشخصية الأدبية أفروز بيك الأكثر شعبية – أو ربما الأكثر إثارة للنفور- التي خلقها كاتبها لنقد التوق إلى التغريب في وصفه "فرنجة وخفة وسنوبية"، تعبّر بكاريكاتوريتها المحببة، لا عن غنى المكتبة التركية، بل عن نزعة عرقية نراها مبثوثة هنا وهناك في كتابات القاص القومي ذي النبرة السجالية الحادة عمر سيف الدين (1884-1920) الذي رأى في التغريب حركة تخص الطبقة العليا المنفصلة عن الشعب .
أشعر بنفسي، في هذه الأمور، أقرب إلى دوستويفسكي الذي كان يستشيط غضباً من المثقفين الروس الذين يعرفون أوروبا أكثر من معرفتهم بروسيا. لكني أيضاً، لا أرى ما يبرر كل هذا الحنق الذي أدى بدوستويفسكي إلى كره تورغنييف، لأنني أعرف، من نفسي، أن وراء كل تلك الحماسة لينصّب دوستويفسكي نفسه مدافعاً عن الثقافة الروسية والصوفية الأرثوذكسية (أأقول المكتبة الروسية؟)، يكمن رد فعل عاطفي منه على الجهل بتلك الثقافة، لا في الغرب فقط، بل حتى بين المثقفين الروس أنفسهم.
في السنوات الخمس والثلاثين من مسيرتي الروائية، تعلمت ألا أرمي جانباً، من مكتبتي التركية، حتى أسخف الكتب وأكثرها ريفية وتخلفاً عن العصر، أكثرها بعداً عن الدُرجة، وأقلها ذكاءً، وأكثرها خطلاً وغرابة. لكن السر في قدرتي على حب تلك الكتب، لا يكمن في قراءتي لها بالطريقة التي أرادها لي مؤلفوها، بل لأنني قرأت تلك الكتب الغريبة والبعيدة عن الاهتمامات الشائعة، والجميلة أحياناً إلى حد لا يصدَّق، بأن وضعت نفسي مكان مؤلفيها، أو حاولت ذلك. لم يكن الطريق إلى التخلص من الريفية الهامشية، بالنسبة اليَّ، هي الهرب من الريف، بل التماهي مع هذا الشعور بالريفية إلى حدوده القصوى. بهذه الطريقة تعلمت معاً، التوغل في مكتبتي التي ازداد حجمها باطراد، ووضع مسافة بيني وبينها. هكذا أدركت، بعدما تجاوز عمري الأربعين، أن السبب الأقوى لحبي لمكتبتي إنما هو أن الغربيين والأتراك على السواء لا يعرفونها. أما الآن، فقد قيل لي: "فزتم بجائزة نوبل، كما أنها سنة تركيا في معرض فرانكفورت للكتاب، فهلا تفضلتم وعرفتمونا الى مكتبتكم التركية؟". أنا مستعد للقيام بذلك ولجعل الناس يحبّون المكتبة التركية، لكني أخشى أن أفقد حبي لها وأنا أفعل ذلك .

قوتادكو بيليك د. جواد هيئت



ترجمة : جلال زنكَابادي

كتاب (قوتادكو بيليكَـ) (*) ألّفه يوسف أولوغ الحاجب الخاص كمنظومة شعرية سنة (1069م/ 448هـ) وأهداه إلى السلطان القراخاني بغرا خان؛ فحصل بهذاالأثر القيّم على لقب(حاجب خاص) الذي يُعَد من أرقى الألقاب عصرذاك. يعني إسم (قوتاد قوبيليكَـ) (علم السعادة) أو العلم الذي يجلب السعادة( وكذلك يعني ضمناً الإقتدار، أي: علم الإقتدار والسياسة) ولئن إختار المؤلف موضوع كتابه هذا وعُني بمحتواه؛ فقد عُدّ موضوعه من الحكمة والعِبَر، وصيغ بأسلوب المناظرة والحوار، كما إستشهد المؤلّف بأقوال العظماء والكلمات القصار(الأقوال المأثورة/ج)؛ لإثبات الأفكار والآراء المتضمنة للدروس والعبر، فيما يتعلق بشتى المناحي الاجتماعية.
هذا الأثر منظوم في شكل المثنوي على بحر المتقارب المثمّن المقصور؛ وبذلك يشبه (شاهنامه) و(بندنامه) الفارسيين، ويسمّيه الإيرانيّون (شاهنامه التركي). ويبلغ مجموع أبيات قوتادكو بيليك (6645 بيتاً) كما ألحق المؤلف بالمتن ثلاث قصائد(124بيتاً) و(173 دوبيتاً= رباعيّة) بشكل الشعر التركي القديم، أي(باياتي) ولذا يٌعَد هذا الأثر أول كتاب شعر تركي بعد الإسلام، بل من مداميك الأدب التركي المنظوم .
لايٌعرف شيء عن مؤلف قوتادكو بيليكَـ ماعدا ما جاء في مقدمة الكتاب، والتي كتبت بعد قرابة القرن من تأليفه. وفحواها أن يوسف كان من أهل بلاساغون، وأكمل تأليف كتابه في كاشغر، ثم قدّمه هدية إلى تابقاج بغرا قره خان. ويتبيّن من مطالعة قوتادكو بيليكَـ أن مؤلفه كان ذا ثقافة واسعة مرموقة، بالإضافة إلى الأدب في علوم الفلك والكيمياء والجغرافيا والرياضيات، وهو من تلاميذ إبن سينا حسب قول بعض العلماء. وكان مطلعاً على إطلاعاً كاملاً على لغات وآداب الشرق(الإيرانية والعربية) إلى حدّ التأثر بها تأثراً بيّناً.
لغة شاعرنا تركية بسيطة، وأدبيّة في الوقت نفسه، وليس في الكتاب كله أكثر من(120 كلمة عربيّة وفارسية) ثمانون بالمائة منها عربيّة والبقيّة فارسية، وهي على الأكثر إصطلاحات دينية وإداريّة حكومية.
يبتديء كتاب قوتادكو بيليكَـ بمناجاة الباري تعالى، ثم امتداح النبيّ الأكرم والخلفاء الراشدين، ثم وصف الربيع ومدح بغرا خان، ثم يتحدث عن النجوم السبعة والأبراج الإثني عشر والعلم والعقل واللغة، ومن ثمّ يدخل إلى صلب الموضوع ، حيث تبدأ المناظرة بين أربع شخصيّات، كل واحدة منها تمثل حقيقة أو واقعاً ما :
1- كون توغدي(كَون دوغدي= طلوع الشمس) طريق الحق والعدل
2- آي تولدي(آي دولدي = البدر) السعادة، الجاه والطالع الحسن .
3- اؤدولموش: العقل والمنطق
4- اودقورموش: مبيّن العاقبة.
وكانت هذه الأسماء في الوقت نفسه لأربعة أبطال قدامى من الأتراك.
يتناقش (كّون دوغدي) الملك العادل الحكيم والفاضل مع آي دوغدي وزيره العالم الواعي حول المسائل الإجتماعية وإدارة الدولة وعن السعادة والعدالة وجدوى الأدب. ويتجلّى عبر الحوار أن الملك يمثل العدالة والوزير يمثل السعادة، لكنما مثلما الحال دائماً عمر السعادة قصير، فسرعان ما يموت الوزير، فينصب السلطان مكانه اؤدولموش نجل الوزير الذي ربّاه أبوه. ويستأنف معه الحوار حول السياسة والعلم والعدالة والشهامة والذوق والرغبات الإنسانية؛ حتى يستنتجا أن حاشية الملك تتبعه، فإذا لم يكن الملك سيئاً؛ لاتجمع الحاشية حواليها السيئين. يقول الملك لاؤدولموش :
" لقد غدوت سبب استتباب العدالة والسعادة في البلاد ، والدنيا غير ثابتة، فإن فقدتك؛ ماذا سأعمل؟ "
وعندها يجيء اؤدولموش بأحد ذويه إلى الملك واسمه اودقورموش، وهوشخص فاضل، نزيه، زاهد في الدنيا ومستغرق في التفكير في الآخرة؛ ولذا فهو غير مستعد للتواجد في حضرة السلطان؛ فيراسله السلطان ويستشيره، ويقوم بدوره بإعلام السلطان بواجباته الوطنية والوجدانية والإنسانية إزاء مواطنيه وبلاده؛ لكي يفوز بالدنيا والآخرة.
يتجلّى في هذا الكتاب المستوى المرموق لثقافة وطراز تفكير شريحة مثقفي المجتمع القراخاني. وعليه فإن قوتاد قوبيليكَـ مع كونه من عيون الشعر والأدب، يُعدّ أيضاً كتاباً للعلوم السياسية والإدارية والإجتماعية.
هنالك ثلاث نسخ قديمة مخطوطة لقوتاد قوبيليكَـ : الأولى نسخة فينّا التي طُبعت بعناية رادلوف، وهذه النسخة مدوّنة بالخط الأويغوري في هرات عام(1439م/ 818هـ) والنسخة الثانية موجودة في المكتبة الخديوية بالقاهرة، وهي مدوّنة بالخط العربي، أمّا النسخة الثالثة، فهي نسخة فرغانه التي نشرتها (TDK = المجمع اللغوي التركي في استانبول سنة(1932) ثم ترجمها رشيد رحمتي آرات إلى اللغة التركيّة ونشرت في 1947 و1959.
يُعد قوتادكو بيليكَـ في المنظور الشعري أثراً ممتازاً، من حيث توظيف فن البديع وقواعد الشعر، ففضلاً عن القوافي الكلاسيكية، إستفاد الشاعر من أنواع الآليتراسيون (تشابه الحروف الصائتة في بدايات المقاطع أو الكلمات) ومن الآسونانس (تشابه أو تكرار أصوات نهايات الكلمات) ومن موسيقى الكلمات نفسها أيضاً، وكذلك إستفاد في مواضع التأكيد وتسلسل الأفكار من تكرار كلمات في بدايات المصاريع أو تكرار كلمة آخر مصرع في بداية المصرع الثاني، وهنا سننقل إليكم بضعة أبيات من قوتادكو بيليكَـ :

" كيشى توغدى اؤلدى سؤز و قالدى كؤر
اؤشـى باردى يالنـوق آتى قالـدى كـؤر "
بالتركية الحالية(الآذرية/ج):
كيشى دوغدي اؤلدى سؤزوقالدى كَؤر
اؤزى كَئـتدى يالنيز آدى قـالـدى كَـؤر

- أنظر إلى آدم جاء إلى الدنيا ومضى وكلامه باق
فقد مضى وبقي إسمه فقط
" بايوسا بدوسه ياديلسا تشاوى
ييسه توْوسا ياتسا بو ييلقى تؤرور"
بالتركية الحالية:
زنكَينلشسه، بويوسه، يابيلسا شهرتى
يى ين دويان و ياتان حيوان دير
- إذا صار ثريّاً وعظيماً وشهيراً
كلّ من همّه الأكل والشرب والنوم فهو حيوان.
" بيليكَـ بيرله بكَلر بودون باشلادى
اوكوش بيرله ايل كون ايشين ايشله دى"
بالتركية الحالية:
بيليكَـ ايله بيكًلر ملته باش اولدولار
عقل ايله خلقين ايشنى اداره اتديلر
- بالعلم يصير البيكَات سُراة القوم
وبالعقل يدبّرون شؤون الناس
" تايانما تريكَليكَه توش تكَـ كئتشر
كوونمه قيوى قوتقا قوش تكَـ اوتشار"

بالتركية الحالية :
دايانما ديريليكَه يوخو كيمى كَيجر
كَوونمه بوش سعادته قوش تك اوجشار

- لايتمسّكنَّ قلبك بالحياة فهي تتبدّد كالحلم
ولاتثقنّ بالسعادة التافهة فهي تطير كالطير
" تؤروتتى تيلك تكَـ تؤرو عالميغ
ياروتنى آزوقا كونوكَـ هم آييغ" (**)

بالتركية الحالية :
تورتدى ديله ديكَى تك بوتون عالمى
ياراتدى دنيا ياكَونى هم آيى
- خلق العالم على مرام قلبه
وللدنيا خلق الشمس والقمر

بعد انتشار اللهجة التركيّة المشتركة لآسيا الوسطى بين الأقوام والمراكز الثقافية المختلفة للناطقين بالتركية؛ أحدثت تغيّرات وبالمرور في ثلاثة مراكز وعلى ثلاث مراحل متواصلة، وراحت تظهر ثلاث لهجات أو أشكال للغة التركية مختلفة قليلاً في ما بينها، لاتفرقها عن بعضها البعض حدود واضحة ومشخصة، فضلاً عن تأثير الأعمال المكتوبة في بعضها البعض. ومثلما الوضع عليه الآن لم يكن هنالك تقليد أدبي وحيد؛ فقد كان المؤلفون عصر ذاك يكتبون أعمالهم تحت تأثير خصوصيّات لغة قبيلة ما و الانتساب إلى أحد المراكز الثقافية الثلاثة وهي :
1- مركز كاشغر و اللهجة التركية الكاشغرية : وتسمّى هذه اللهجة أيضاً التركية الشرقية أو الخاقانية.
2- مركز تركستان الغربية أو خوارزم والتركية الخوارزمية: منذ القرن الثاني عشر أصبحت منطقة آلتون أوردو ضمن هذا المركز ولهجتها التركية.
3- التركية الجغتائية: انتشرت هذه اللهجة في مراكز مختلفة في القرن الخامس عشر، وبلغت مستوى مرموقاً بآثار (علي شير نوائي) في القرن نفسه.
الآثار المدوّنة بالتركية الكاشغرية أو الخاقانية شرعت بكتاب قوتادكو بيليكَـ وأهمها لاحقاً :
1- عتبة الحقائق/ تأليف: أديب احمد يوكنةكي: منظومة شعرية تتناول فضيلة التديّن وعلم الأخلاق.
2- ديوان الحكمة لأحمد يسوي : شعر ديني وأخلاقي ممزوج بالتصوّف.
3- قصص الأنبياء رابغوزي : يتناول مناقب الأنبياء، وهو لناصر رابغوزي، الذي ألّفه في سنة(1310م/589هـ)

* أي الحكمة التي تمنح السعادة
** آزوقا : Azhuqa (ج. ز)

المصدر :
تاريخ زبان و لهجه هاى تركى
دوكتور جواد هيئت

نشر نو- تهران 1365ش

الشاعر أحمد هاشم الآلوسي

ترجمة : صباح طوزلو
كباقي الشعراء والمثقفين الترك درس في إعدادية (غلطة ساراى) المشهورة آنذاك. وهو عربي الأصل، تركي النشأة والثقافة. ولد في (بغداد) في العام 1884
ينتمى إلى عشيرة (الآلوسى) . وهو نجل القائم مقام (عارف حكمت). حرم من حنان الأم وهو في الثامنة من عمره فأصطحبه والده إلى (اسطنبول) عام (1895) وأدخله الإعدادية المذكورة يعتبر من أكبر شعراء مرحلة ( الفجر الآتي ) بدأ (هاشم) في (اسطنبول) بتقوية لغته التركية من جهة ومن جهة أخرى قام بكتابة ونظم الأشعار كان شعره الموسوم ( عشق الخيال) أول تجربة له في عام (1901) . في تلك الأثناء كان يتأثر بالشعراء الكبار أمثال ( عبد الحق حامد) ( جناب شهاب الدين) و ( توفيق فكرت ). في عام (1907) تخرج من الإعدادية المذكورة ودخل ( كلية الحقوق ) وعند صدور أمر تعينه كمدرس للغة الفرنسية إلى ( أزمير) أضطر إلى ترك دراسته في ( كلية الحقوق ) بـ ( اسطنبول) . وعندما صدر أمر تعينه كمترجم في وزارة المالية عاد ثانية إلى ( اسطنبول ) .عمل كضابط احتياط عند نشوب الحرب العالمية الأولى . بعد أن وضعت الحرب أوزارها عمل كمدرس للغة الفرنسية في أكاديمية الفنون الجميلة في قسمي ( الفن الجمالي ) و (علم الأساطير) وفي الأكاديمية الحربية وفي كلية ( العلوم السياسية ).
منذ البداية كان يعاني من مرض الكلى . في عام (1932) سافر إلى (فرانكفورت) من أجل العلاج وبعد فترة قصيرة من عودته أشتد مرضه وأصبح سبباً لوفاته في الرابع من حزيران عام (1933) في منطقة ( أيوب ) .
يعتبر (هاشم) شاعراً رمزياً وانطباعيا وبؤرة الشعر في مرحلة (فجر آتي) أنه ضمن تلهفه لـ (تلك البلدة) غير المعروفة . ولأجل معرفة فنه يستوجب العودة إلى طفولته ، ولطفولته الأثر الكبير على فنه . كانت والدته إلى درجة من الشفقة والرحمة بالعكس من والده الذي كان إلى درجة من الصلابة والقسوة . بعد وفاة والدته عاش في عزلة مخيفة .
يعتبر (أحمد هاشم) من ضمن الشعراء والذي تمكن وبأسلوب ساحر ومشوق من التعبير عن أحاسيسه المرُهفة حول حبه الكبير الذي كان يُكنه لوالدته وحول وحدته وذكرياته الطفولية والمعاناة من اليُتم الذي أدمل قلبه الصغير في غفلةٍ من الزمن أنه يؤمن بأن الفن يجب أن يكون للفن . لا يتطرق في أشعاره إلى الأفكار والحوادث الاجتماعية . لم يكتب بوزن ( الهجا ) بتاتاً جميع أشعاره كُتبت بوزن ( العروض) وهي خليط من الكلمات العربية والفارسية ومزخرفة بالأستعارة والتشبيه والمجاز والإضافات . لغته ليست نقية ولا يُلمس فيها ذوق وجمال اللغة التركية. بالنسبة لـ ( هاشم ) هناك خطوط حمراء بين الشعر والنثر. الشعر يُكتب من أجل ( التحسس ) والنثر يُكتب من أجل (التفهم) الشعر يولد من الجمال المخفي ولغته ليست كلغة النثر من أجل التفهم . الشعر لغة قريبة من الموسيقى أكثر من الكلمة عند كتابة الشعر يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار التوافق في الخط الأول والكلمة في الخط الثاني .
عندما يكتب ( أحمد هاشم ) الشعراء، يحاول الولوج إلى عالم الغموض أجبار القارئ أن يكون ذا خيال يقظ وأن يضع نصب عينيه عدة احتمالات في تفسير شعره .
كشعراء الغرب الرمز يؤمن (أحمد هاشم) بوجود عالم لا يُرى بالعين المجردة ما وراء العالم الذي يرى
بالعين المجّردة وأنه يتحسس بلهفة ذلك العالم . نجد في ( أحمد هاشم ) كيف أنه يجسد كرسام في أشعاره رعشة الإنسان الداخلية وألوان شمس المساء وعلى شكل موضوع إنشائي رائع . لا نصادف شاعراً ثانياً بمستوى ( أحمد هاشم ) في الأدب التركي كشاعر رمزي، أنه يعرض أمام أعيننا عالم طفولته السحرية بكلماتٍ ملونة. فالعشق والطبيعة وتناولهما هي من أهم سمات شعره.

نماذج من أشعاره

لا أنت ولا أنا
ولا هذا المساء المجتَمعُ في جمالك ،
ولا هذا البحر الأزرق الذي أصبح مرساةً لآلام الفكر
أصدقاء ، للجيل الذي لا يفهمُ معنى الملل

السُلمَّ ستصعد ببطىء
عن طريق هذه السلالم
في ذيل ثوبك كومة من الورق
كلون الشمس
وفي لحظةٍ من الزمن
ستنظر إلى السماء باكياً
أصفرت المياه .. وجهك يميل إلى الشحوب
طبقةً تلو الطبقة
تأمل الأفق الحمراء ،
فالوقت يميل نحو الغروب .
الورود منحنية نحو الأرض ،
وهي قانعة بأنها متصلة بها .
البلابل المدمية تقف على الأغصان كالشرر .
هل المياه احترقت ؟
لماذا التشابه بين المرمر والنحاس ؟
هذه هي لغةٌ خفية تملأ الروح .
تأمل الأفق الحمراء ، فالوقت يميل نحو الغروب .

إلى قاسم فنجان

كتابة : طالب فراس
أنها تاريخ المصائر المختلفة.. تاريخ البشر والنهر والعتمة.. الصمت المتفجر.. سكون الحياة وحركتها المستنهضة لقوى خفية تتداخل مع كيانات إنسانية
مرتبطة مع كائن ممتد في داخل كل عتمات الحياة .. يدخل بغير استئذان إلى ذواتنا فيشمل سلطان الخوف والتدمير والبراءة، يهيأ وجودنا لولادات متناقضة تحتم ابتكار الولادة داخل علاقات لا تنفصم ، تتكئ على الموروث الشفاهي وتسوغ الرغبات المتطرفة للمصائر الإنسانية ضمن نسيج القصة التي تفجر صراع الوجود الحاد في مسار الأفعال المتوالية التي لا تنتهي حتى بعد أن يقذف النهر – الرحم (عبد الشط ) في مساحة مأزومة .. ( جثة غريبة، جثة قال عنها حارس النهر، أنها له) منبجسة من فعل قوى متحركة ، من المخاض الذي يتحمل كل الولادات المقنعة تارة والمنفلتة تارة أخرى داخل الزمن وخارج التاريخ ..
التاريخ الذي يبدأ من حيث تنتهي الوقائع . أن الانغماس في البحث في تاريخه الذي يتحمل وجوه الوقائع ، الواقعية واللاواقعية عبر كيان (عبد الشط) المسخ المتلبس وجود الآخر المتعلق بأستار العتمة وظلماتها (وأضفى على هيئته الملساء مهابة السلاطين وسيده على الطيور وحدثه ذي النون إذ ذهب مغاضباً ...) أنما هو نتيجة منطقية لصيرورة التاريخ وتحولات الوجود في نطاق تبادلي شامل لأدوار غير مفتعلة مدركة ، تبدأ ولا تنتهي وتخلق سياقاتها المحتملة في دوامة صراع مع الطبيعة (النهر) الذي يتحول بفعل أسطوري لبلد (الضفة الغريبة ، ضفة النهر الثالثة) المهيأة التشكلات محتومة يهرب الإنسان منها وإليها (قال عنها من أستطاع الوصول إليها قبلي ، أنها فسحة شاسعة خالية...) في مساحاتها الآسرة الخاضعة للاضطراب تأوي داخلها الرغبات المتشظية وعلامات الجنون المستساغة التي تؤسس عالمها خلال المفردة وفي الحقيقة، لعل أفضل طريقة للاقتراب من عالم القصة وكما هو الحال في نصوص (قاسم) . – الشعر والمسرح والقصة – هو التذوق الجمالي والاستمتاع بالجملة والارتقاء بالحدث ببراعة والوصول إلى النضج الإبداعي بأسلوب سردي هادئ ورصين، يبدد الترهل ويعطي دلالاته المميزة في كل عوالم ( قاسم ) في كل ما كتبه وهو الذي أحتفظ بعلاقة حميمة وصادقة مع الكلمة المنثورة في حمية مضامينها ودلالاتها البارعة في تخطي الزعزعة الجمالية والمحافظة على شكل فنية النص النثري الذي لا ينزع إلى التجريد أو الفنطازيا ولا يكتنفه لعب التتابع اللفظي مكتفياً بما يفرضه عليه ضميره الإبداعي دون تقليد أو محاكاة ...
أن مبادرة النص إلى الإيحاء أو المغامرة في التخيل يغري المتلقي على الأخذ بزمام هذه المغامرة من قبل الكاتب في محاولة تأصيل المختلف بدلالات مغايرة وهنا تكمن اللحظة الإبداعية ، محاولة تأمين وجودها في النظام المعماري للقصة دون أن ينزلق الكاتب في المباشرة رغم ما يكتنف القصة من تأويلات غامضة لدى القارئ ألا أنها تظل حكاية قابلة للتأويل ومحاولة واعية لإعادة تأسيس الواقع والتأكيد على أن ثمة عالم متخيل غير هذا العالم الذي تسوده مواضعاته الحلمية وأشكال أخرى للقسوة تتجاوز حدود الوهم وتقطع أواصر التصور والانبهار بالقيم المدهشة التي تعلّي من قيم الجهل والخرافة والسمسرة والخيانة والمتاجرة والادعاء في كل شيء بما في ذلك الشرف والوطن . العالم الصافي عالم (حي بن يقظان) أو (روبنسون كروزو) عندما (قالوا عنه : أنه شاهد ذات مساء من مساءاته الحزينة عاشقين يتعانقان على مقربة منه) فكشف عن نزعات بشرية بحساسية فائقة تحقق استجابة القارئ وتلهم خياله وتعزز تأويلاته. بذلك التداعي الذي يؤصل الضبط الشعوري ويرسخ المتخيل في نسيج شفيف مكرس لخلق الواقع دون اللجوء إلى التعقيد وصياغة أشارات الماضي أو تدجين الكوابيس بمواصفات أبداعية لا يؤمن بها الكاتب أو يخضع لها أو يستحضرها وهي استراتيجية أعتمدها الكاتب في أكثر من موضع في مقام التداخل الأزلي بين الواقعي واللاواقعي الغنية بإيماء عبر طرائق متعددة في توظيف الحكاية أو الرمز الشعبي التي جنح إليها الكاتب دون أن تلجأ إلى المناهج أو النظريات النقدية لنحيل إليها افتراضاتنا ولا أظن أن كاتبا يوفق في استخدام الوهم ليصوغ قصة تمتلك كل أدواتها ألا الذي يتمتع بقدرة فنية استثنائية في فن كتابة القصة وأحسب أن تكثيف الشاعرية تدعم روح الحكاية وهذا يحسب للكاتب أيضاً في مجال استجابات المختلفة للتداعي الضمني الذي يؤثر الحدث ويبقى رهن دلالاته المؤثرة ويصبح من العسير نسيان النهايات والمصائر (شاهدها تنحني له بانكسار فأمرها أن ترفع رأسها عالياً ، امتثلت فأومأ لها بالنهاية...) التي قادت إلى عملية الوضع الموحية بأن حياة الجثة هي حقيقة أبدية لثنائية الحياة / الموت أكثر حضوراً ودلالة عندما (تنزع روحه الزرقاء وتطلقها لتحلق هائمة في سماء بعيدة ، تسمو روحه الشفافة عالياً محلقة ورائها امرأة متشحة بسواد الحزن، تراقب الأمواج وهي تسجي جثة بيضاء بلا أنثى على شاطئ كان رمله ساخناً كالدم) .
ثمة حياة وتحولات متعاقبة لصنع المصائر الإنسانية وإخفاء البشاعة والفوضى وإضفاء مسحة من الترتيب للولادات الأسطورية والجمال ، تدمر سطوة الجنون وغلطة المشاعر وبدائية الوهم.

اصدارات مركز كلاويز الأدبي والثقافي

بهدف تعريف القارئ بآخر إصدارات المراكز الثقافــــــية في إقـليـــــــم كردستان نعرض بعضها هنا. فــــضمن منشورات مركـــــــز كةلاويز الأدبي والثقافي وفــي سلسلة خاصة بمهرجان كــــــه لاويز الذي أقيم في محافـظة السـليمــــــانية أواخر 2008 صدرت كـتب عديدة ذات شأن في خـارطة الثقافـــــــة العــــــــــراقية منها الكتــب التي نشرها الشاعر و الكاتب (عبدالله طاهر البرزنجي) بالعربــية فهي تتوزع بين قصص أو قـصائد مختارة ومترجمـة الى العربـية أو قـصصا للزميل البرزنجي ولآخرين غيره.. ومدت كةلاويز يدها الى عمق الثقافة العراقية أيضا فأصدرت ضمن مطبوعاتها كتابا قيما للناقد رشيد هارون بعنوان (القط والفار).
القط والفار :
الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كتبها الناقد رشيد هارون عن شعراء عراقيين أمثال كاظم الحجاج، رسمية محيبس زاير، الراحل سركون بولص، ناهض الخياط، علاء المعاضيدي ، ناجح المعموري ، موفق محمد ، باسم فرات، صفاء ذياب، إبراهيم الخياط ، مهدي القريشي، نوفل أبو رغيف ، والشاعرة الكردية كوسار كمال بيروت رعد كريم ، جمال جاسم أمين والعديدة من الشعراء الشباب في بابل .
الولي :
مجموعة قصصية للقاص والشاعر الكردي عبدالله طاهر البرزنجي تحتوي على 14 قصة قصيرة جدا يبدو أنها مكتوبة بالعربية ولكن موضوعاتها كردية بحتة تعكس صورا مركزة عن الواقع المعاش . وهي ومضات قصصية تعتمد ضربات مركزة تحمل معاني كبيرة تفتح أمام القارئ عوالم شاسعة يمكن التفكير فيها والإتيان بتأويلات مختلفة في شأن تفكيك شفرات بعضها على الرغم من أنها تبدو في أول وهلة أنها بسيطة وسهلة . ومن الجدير بالذكر أن أول انطولوجيا عن الشعر الكردي تحمل توقيع الأستاذ عبدالله طاهر البرزنجي .
صيد الأمواج :
تحتوي المجموعة الشعرية الموسومة بـ (صيد الأمواج) على ثلاثين ونيّف من القصائد والمقاطع الشعرية بعربية في غاية الروعة كما هو عهدنا بالزميل البرزنجي الأستاذ في اللغة العربية في جامعة السليمانية ، وهو إذ يأخذنا في رحلة فكرية وجمالية ممتعة الى عوالمه الأثيرة، يقتنص بها اللحظات المبهرة في حياتنا ، يقول المؤلف عن محاولته هذه :
بعد أن جمعت عدة جمل وكلمات لتشكيل هذه النصوص أتخلى عن أعراف الكتابة وأغادر دور المؤلف لأقوم بنزهة للبحث عن المعاني الحديثة كقارئ نسي مغامرة النص الأولى ، وكلي ثقة أن التأويل لا تحده حدود ، وقراءتي هذه لا تؤدي الى تحجيم تأويل المتلقي بشكل نهائي . أنها قراءة منتج حل ذات مرة محل القارئ .
ونقرأ تعويذة للبرزنجي :
أعوذ بالجسد من برق حرابهم
أعوذ بالحفرة من فضاء المذلة
أعوذ بشطآن الدم من شر جفافهم
بلحمي أعوذ من أفواه المديات.

القورية

الى فاروق مصطفى
شعر : هشام القيسي
في خطواتها تدل عليها ، وتجاهر
بدءً من كل تلك الأشياء
وحتى جموح الماء
وفي خطواتها لا تجدد للذكرى
لكن تفتح الأفق
وتعاشر
هكذا في ضوءها
وفي كل مدار
ترشق اللحن
من أجل أصوات رائية
وأزمنة
ولغات من أحشاء الأسرار
وهكذا أرغب في موج الألوان
وأسافر هذي الليلة
دون أن أسمع همسا من صهيل يعشق رفضه
وسكين تسأل كلمات هذا الدفتر
ولا تنام ،
هذه دروب القورية
وهذا وقتها
فردوس هذا المكان
تحمل بين يديها
مصابيح اليقين الممطرة
لـ (جرت ميدان)
وتعلن أن الحروف بين المعنى والشعر
لا أعرف من يسأل عني
إني في عروق الفصول
أمتد
وأشتعل
ولم يبق غير الصوت
وحرائق سميتها
نسل الوقت .

فاروق مصطفى و ( ما قاله الأصدقاء لكركوك الهاطلة في القلب)

كتابة : محمد خضر
العشق عند أهل العلم عبادة وعند أهل القلم ريادة فكيف إذا كان عاشقنا قد حمل القلم ليحيي معشوقــــته ويطلق في سماء من يعشـق كلـمات لتصبح بعد إذن كتبا ورسائل وخطابات ومقـالات وقصائد تضيء كالنجوم حاملة الحب والسعادة وكتاب الأستاذ فاروق مصطفى الصادر حديثاً والموسوم بـ ( ما قاله الأصدقاء لكركوك الهاطلة في القلب) هي مجموعة مقالات أتحفنا بها مع ثماني قصائد دبجها بقلمه الذي ينبض بروح المدينة الأزلي . ففي كل دول العالم – عدانا نحن – تظهر الكتب في احتفال وهرج وكاميرات حتى وان كان الكتاب بلا معنى ، لأنهم هناك ما زالوا يبحثون عن المبدعين ! أما في كركوك فينزوي كل المبدعين في أماكن لا تصل إليها الأضواء . فالإبداع عند الأستاذ فاروق مصطفى ومن هم مثله هو ما يجيش به الإنسان لمن حوله من حرافيش الأدب وهم القلة القليلة التي تتواصل مع رموز الإبداع . وفي كتاب فاروق مصطفى يرتحل بنا في البحث عن (حب قوريالي يتسول ضبابات أساه) وأسرار عشق الكركوكيات اللواتي بدأن في ذاكرة الطفولة ولم يفقدن صورهن من مخيلتنا رغم مرور ستة عقود لأن الحياة تعني عدم (الخروج من فراديس جرت ميدان) وإبقاء الذاكرة متيقظة على مقاهي كركوك وشوارع وسينماتنا التي أعدمت على مرأى جيل الحرب والحصار.
أما بالنسبة للقصائد فقد حملت الأولى شجونه ، ثم حلم ذلك الفتى الذي عشق روزا الحمراء وهو يراقب يوميا تلك النافذة التي بظفيرتين طويلتين. ولا ينسى ما حملته الذاكرة عن (كفافي) الشاعر اليوناني الذي عاش بمدينة الإسكندرية في القرن الثامن عشر، وقبل أن يبحث عما بقي من آثار أقدام جان دمو الصاعدة الى مقاهي كركوك بين عرفه وتعليم تبه و(حمزة حمامجى أوغلو ملدوسا بشجرة تسكعاته) و (ياوز فائق يقتعد غيمة القلعة) .. ومازال فاروق مصطفى يحاول البحث عن مدينة نسيت نفسها بين أصابع الغمام)
وهو الذي لا يدري أيصعد الهواء
أم يهبط خاصرة السرى
في طرقات تفترش أنبذة الكلام .

ما قاله الأصدقاء لكركوك الهاطلة في القلب

ينطلق فاروق مصطفى في كتابه الجديد " ما قاله الأصدقاء لـ كركوك الهاطلة في القلب" من مقولة ألبير كامو : إن لكل كاتب أصيل نبعاً واحدا يغذيه طوال حياته ( فكركوك هي نبع الكاتب ، يلثم أنساغ أشجارها وحدائق دفلاها وأعمدة جسورها وأنفاس مقاهيها وأغبرة طرقاتها التي تعبث بها أصابع النسيان ، هي هواه وأقمار شغفه ، فلا يملّ من هذا العزف ولا من السرى تحت أمطارها الشتائية . فلا عجب أن يجعل من كلماته لكركوك وناسها الطيبين موائد يمد فوقها ودّه وشايه وخبزه .. لا يملك إلا هذا القلب يدحرجه في مماشيها، ومتأبطاً صراخه يهرول خلف أيامه التي تشتت الأصحاب وأحلامهم الهاربة، يتكيء على خاصرة الصباح لئلا يزحف الإظلام إلى الذاكرة المضنية وتستمر غواياتها خلف شبابيك انحدارات العمر .