2009/04/06

أمام الستار


تراجيديا المدينة

فاضل الحلاق
كاتب ومسرحي



(مأساة طيبة) جزء من سلسلة مسرحيات عن عائلة لايوس سبق أن عالجها أسخيلوس ثم سوفوكليس بأساليب وأشكال مختلفة ، لكنها لم يبعدا كثيراً عن قيمة القدرية التي يكاد الإنسان يقف عاجزاً أمامها ، غير أن الزمن الممتد وبين الكاتب الفرنسي راسين أطاح بالكثير من القيم والتصورات والأفكار وظهرت مبادئ وفلسفات ورؤى أشرت معظمها إلى الانفتاح والابتعاد عن الغيبيات وأن الإنسان موقف ولابد من أن يخدم وإن حرية الشعوب مقدسة ولا يجوز الاستهانة بها والنظر إليها من الأبراج العالية .. [ المسرحيات اليونانية عموماً كانت تعبر عن مرحلة نشؤء وتفكك الفئة المحاكمة التي اتكأت على الفردية المطلقة ، بين أراد شكسبير وغيرهم من كتاب عصره تصوير اضمحلال النظام الإقطاعي وتحطمه على عتبات العصر الجديد] .. راسين الذي كتب " مأساة طيبة " صاغها بشكل تتلائم وتطورات عصره .. وبإيجاز : هناك مدينة يدعي الجميع بحبها وعشقها ، ولكن كل على طريقته الخاصة ونواياه المبيتّة كل جهة تريد الاستحواذ على مقدراتها واغتصابها بشتى الذرائع والتبريرات .. الأمير كريون ، خال الأخوين المتنازعين يقف على أهبّ الاستعداد لكي يتفقا على مسألة الملك واعتلاء العرش .. لكن الصراع بينهما لا يدع للعقل مجالاً للراحة والتأمل .. كان من المفروض وحسب وصية والدهما " أوديب " أن يتعايشا ويتقاسما السلطة بينهما .. لكن سحر وبريق العرش وشعور أحدهما بالتفوق على الآخر أبرزا حالة المغابرة والنفور بينهما فاندفعا إلى تجيش الجيوش والدخول في حرب طاعنة شعواء ثم المبارزة فيما بينهما والموت وسط ذهول الجميع ونواح وبكاء الأم الشقية وأختهما الملتاعة أنتيجونا .. أن المدينة " طيبة " تسع الجميع وبامكانها أن تعيش بسلام ، لكن المواقف المتباينة الحادة تنزل الستار في النهاية على الخاسرين في صراع خاسر .. هنا نعق بوم البغض على الأخوين بدل هديل طير الوفاق والتفاهم .. يقول راسين : كان بولينيس يعتمد على الحق الإلهي في العرش وأتيوكل يعتمد على الشعب ، فقد كان بحاجة إلى هذه الحجة لتغذية بغضها وعزاء النفس والادعاء بأن الإله يقف معها .. وكان هناك من يراقب الأوضاع لكي ينهي الأخوان أحدهما الآخر ويتقدم لإملاء الفراغ ! .. أن كل حقبة من التاريخ شهدت أحداث خطيرة جسام أشترك فيها ملوك وقادة وأبطال ورجال ونساء ، أدوا أدواراً يقف الدماغ أمامها ملجوماً مصعوقاً من شدة أهوالها وبشاعتها وتحولت حياتهم المأساوية إلى حكايات مغمسة بالأساطير والخرافات وبأقلام ورؤى كبار الكتاب والشعراء اشتهرت كروائع الأدب العالمي من مسرحيات وروابيات وقصص شامخة وفي هذا الزمن الخائب بأحداثه وتناقضاته وأهواله وتشابكاته منذ الحرب الأولى وإلى الآن ، أصبحت صياغة المآسي من قبل شعرائنا وكتابنا معجونة ومختطة بالكوميديا .. نبكي ونضحك .. ونضحك ونبكي .. على أنفسنا وعلى الآخرين .. لقد تأخرنا حين كان يجب نتطور .. وأصبحت رايات التعاسة تتقدم مواكب سعادتنا .. وسنوات خيباتنا تختزلها وتجسدها كلمات جوكاستا أم الأخوين العاقين المتوحشين :
ها نحن أذن وااسفاه ..
نرى هذا اليوم الكريه
لا الدعاء أجدى ولا البكاء
فغليل القدر يريد أن يرتوي ! ..
أن العديد من المدن المشهورة ومن بينهما (بغداد) الحبيبة عاشت أفظع وأشنع الصراعات على العرش .. ولكي لا نبتعد كثيراً عن مدينة " طيبة " فقد شهدت قلبها صراعاً كاد يؤدي إلى نشوب حرب بين كريون و أوديب وذلك حول المسئول عن الدنس .. كان الناس في حالة غليان وهياج والطاعون يفتك بالعشرات .. ورهط السلطة يبحثون عن الأسباب ويتهم بعضهم البعض بأبشع الصفات والنعوت ، والخاسر الأوحد : الشعب والوطن .. أن الكثير من المؤلفين عالجوا مسألة السلطة بشكل دقيق وغريب ، ويكاد يتفق الجميع على أن الدم هو الرابط القوي الذي يجمعهم .. ففي مسرحية الملك لسعد الله ونوس، نسمع الملك وهو يقول بكل ثقة :
لا شيء يطهر الملوك مثل الملوك مثل الدم .. سأقتل ، سأستحم فيه .. سيكون بعد اليوم طيبي وعطوري .. ولنسمع بولينيس في مسرحية " مأساة طيبة " يتشدق بكل فخر أمام أمه وأخته : ليرقب هنا الشعب أو ليتعلق بنا كما يشاء ، فليست أهواؤه هي التي ترفعنا إلى العرش ،بل هي الدماء ، وعليه أن يقبل ما يقدمه له الدم .. أنه البعض .. كما يقول رولان بارت – يبحث عن القوة .. أنهما متلاصقان ، هناك تيار داخلي يحرك كتلة واحدة .. البعض يقرب بين الأخوين .. اتيوكل وبولينيس .. والأمين والمأمون .. أن كلا منهما محتاج إلى الآخر لكي يحيا ويموت .. وجاذبية العرش تسحبهما إليهما بقوة .. وبقية الادعاءات والحجج والشعارات وبيانات التمريض وتأجيج الأجواء وتجيش الجيوش وتأليب الرأي العام ونظريات المؤامرة والعمالة ، كلها تحصيل حاصل للصراع الأصلي والوصول إلى حافة الجريمة غير أن لسان الشعب المغلوب على أمره دوماً سيلهج أبداً بكلمات الشاعر محمد الماغوط :
في دمي رقصة الفالس
وفي عظامي عويل كربلاء
وما من قوة في العالم
ترغمني على محبة ما لا أحب
وكراهية ما لا أكره .

ليست هناك تعليقات: