2009/04/05

إلى قاسم فنجان

كتابة : طالب فراس
أنها تاريخ المصائر المختلفة.. تاريخ البشر والنهر والعتمة.. الصمت المتفجر.. سكون الحياة وحركتها المستنهضة لقوى خفية تتداخل مع كيانات إنسانية
مرتبطة مع كائن ممتد في داخل كل عتمات الحياة .. يدخل بغير استئذان إلى ذواتنا فيشمل سلطان الخوف والتدمير والبراءة، يهيأ وجودنا لولادات متناقضة تحتم ابتكار الولادة داخل علاقات لا تنفصم ، تتكئ على الموروث الشفاهي وتسوغ الرغبات المتطرفة للمصائر الإنسانية ضمن نسيج القصة التي تفجر صراع الوجود الحاد في مسار الأفعال المتوالية التي لا تنتهي حتى بعد أن يقذف النهر – الرحم (عبد الشط ) في مساحة مأزومة .. ( جثة غريبة، جثة قال عنها حارس النهر، أنها له) منبجسة من فعل قوى متحركة ، من المخاض الذي يتحمل كل الولادات المقنعة تارة والمنفلتة تارة أخرى داخل الزمن وخارج التاريخ ..
التاريخ الذي يبدأ من حيث تنتهي الوقائع . أن الانغماس في البحث في تاريخه الذي يتحمل وجوه الوقائع ، الواقعية واللاواقعية عبر كيان (عبد الشط) المسخ المتلبس وجود الآخر المتعلق بأستار العتمة وظلماتها (وأضفى على هيئته الملساء مهابة السلاطين وسيده على الطيور وحدثه ذي النون إذ ذهب مغاضباً ...) أنما هو نتيجة منطقية لصيرورة التاريخ وتحولات الوجود في نطاق تبادلي شامل لأدوار غير مفتعلة مدركة ، تبدأ ولا تنتهي وتخلق سياقاتها المحتملة في دوامة صراع مع الطبيعة (النهر) الذي يتحول بفعل أسطوري لبلد (الضفة الغريبة ، ضفة النهر الثالثة) المهيأة التشكلات محتومة يهرب الإنسان منها وإليها (قال عنها من أستطاع الوصول إليها قبلي ، أنها فسحة شاسعة خالية...) في مساحاتها الآسرة الخاضعة للاضطراب تأوي داخلها الرغبات المتشظية وعلامات الجنون المستساغة التي تؤسس عالمها خلال المفردة وفي الحقيقة، لعل أفضل طريقة للاقتراب من عالم القصة وكما هو الحال في نصوص (قاسم) . – الشعر والمسرح والقصة – هو التذوق الجمالي والاستمتاع بالجملة والارتقاء بالحدث ببراعة والوصول إلى النضج الإبداعي بأسلوب سردي هادئ ورصين، يبدد الترهل ويعطي دلالاته المميزة في كل عوالم ( قاسم ) في كل ما كتبه وهو الذي أحتفظ بعلاقة حميمة وصادقة مع الكلمة المنثورة في حمية مضامينها ودلالاتها البارعة في تخطي الزعزعة الجمالية والمحافظة على شكل فنية النص النثري الذي لا ينزع إلى التجريد أو الفنطازيا ولا يكتنفه لعب التتابع اللفظي مكتفياً بما يفرضه عليه ضميره الإبداعي دون تقليد أو محاكاة ...
أن مبادرة النص إلى الإيحاء أو المغامرة في التخيل يغري المتلقي على الأخذ بزمام هذه المغامرة من قبل الكاتب في محاولة تأصيل المختلف بدلالات مغايرة وهنا تكمن اللحظة الإبداعية ، محاولة تأمين وجودها في النظام المعماري للقصة دون أن ينزلق الكاتب في المباشرة رغم ما يكتنف القصة من تأويلات غامضة لدى القارئ ألا أنها تظل حكاية قابلة للتأويل ومحاولة واعية لإعادة تأسيس الواقع والتأكيد على أن ثمة عالم متخيل غير هذا العالم الذي تسوده مواضعاته الحلمية وأشكال أخرى للقسوة تتجاوز حدود الوهم وتقطع أواصر التصور والانبهار بالقيم المدهشة التي تعلّي من قيم الجهل والخرافة والسمسرة والخيانة والمتاجرة والادعاء في كل شيء بما في ذلك الشرف والوطن . العالم الصافي عالم (حي بن يقظان) أو (روبنسون كروزو) عندما (قالوا عنه : أنه شاهد ذات مساء من مساءاته الحزينة عاشقين يتعانقان على مقربة منه) فكشف عن نزعات بشرية بحساسية فائقة تحقق استجابة القارئ وتلهم خياله وتعزز تأويلاته. بذلك التداعي الذي يؤصل الضبط الشعوري ويرسخ المتخيل في نسيج شفيف مكرس لخلق الواقع دون اللجوء إلى التعقيد وصياغة أشارات الماضي أو تدجين الكوابيس بمواصفات أبداعية لا يؤمن بها الكاتب أو يخضع لها أو يستحضرها وهي استراتيجية أعتمدها الكاتب في أكثر من موضع في مقام التداخل الأزلي بين الواقعي واللاواقعي الغنية بإيماء عبر طرائق متعددة في توظيف الحكاية أو الرمز الشعبي التي جنح إليها الكاتب دون أن تلجأ إلى المناهج أو النظريات النقدية لنحيل إليها افتراضاتنا ولا أظن أن كاتبا يوفق في استخدام الوهم ليصوغ قصة تمتلك كل أدواتها ألا الذي يتمتع بقدرة فنية استثنائية في فن كتابة القصة وأحسب أن تكثيف الشاعرية تدعم روح الحكاية وهذا يحسب للكاتب أيضاً في مجال استجابات المختلفة للتداعي الضمني الذي يؤثر الحدث ويبقى رهن دلالاته المؤثرة ويصبح من العسير نسيان النهايات والمصائر (شاهدها تنحني له بانكسار فأمرها أن ترفع رأسها عالياً ، امتثلت فأومأ لها بالنهاية...) التي قادت إلى عملية الوضع الموحية بأن حياة الجثة هي حقيقة أبدية لثنائية الحياة / الموت أكثر حضوراً ودلالة عندما (تنزع روحه الزرقاء وتطلقها لتحلق هائمة في سماء بعيدة ، تسمو روحه الشفافة عالياً محلقة ورائها امرأة متشحة بسواد الحزن، تراقب الأمواج وهي تسجي جثة بيضاء بلا أنثى على شاطئ كان رمله ساخناً كالدم) .
ثمة حياة وتحولات متعاقبة لصنع المصائر الإنسانية وإخفاء البشاعة والفوضى وإضفاء مسحة من الترتيب للولادات الأسطورية والجمال ، تدمر سطوة الجنون وغلطة المشاعر وبدائية الوهم.

ليست هناك تعليقات: