2009/04/06

هل الديمقراطية مفهوم تجريبي ؟

وممارستها ضرورة لابد منها !!

كتابة : تحسين ياسين

مما لا شك فيه أن مقولة- فولتير- الشهيرة هذه ستبقى خالدة أبداً الدهور ورغم اختلاف الآراء والمفاهيم، فهي حقاً التعبير الحي والملموس الذي يلامس الروح بكل صدق وهي التعبير السامي عن الروح الإنسانية لفهم الحرية الحقة.. لقد أصاب فولتير كبد الحقيقة، فالديمقراطية مفهوم تجديدي تجريبي وعملية ممارستها ضرورة لابد منها ، ومن أجل تكريس السلوك الديمقراطي وتهذيبه يتطلب تحفيز النفوس وتحديث المؤسسات كافة ، والعمل على أيجاد العوامل المشتركة ما بين مؤسسات الدولة والطبقات الاجتماعية المتفاوتة ، والإيمان بحقوق المواطن من قبل الدولة ومؤسساتها، والإيمان أيضاً بحقوق الدولة على الفرد وكذلك الإيمان واحترام القوانين وتحديد لكل واجباته تجاه الآخر .
أنّ بناء القواعد الصحيحة انطلاقاً من مفهوم الديمقراطية في متناول الجميع وتنظيم العلاقة بين الشعب والحكومة وضمان مستقبل الفرد واحترام الرأي والرأي الأخر هي التي تدفع المجتمع إلى بناء دولة مؤسسات ذات قيمة مدنية مبنية على قيم جديدة وفق مفاهيم حديثة ومتينة تستند على أسس واقعية قابلة للصرف بعيدة عن الشعارات العاطفية والغيبيات المثيرة للجدل .. ونحن عبر سنين طوال بيننا نظمنا وكما هو معروف وفق دوافع عاطفية وروحية خيالية ميتافيزيقية . ولم نتعامل مع المنطق والواقع إلا خيالياً . ولذلك كان التصادم هو سيد الموقف وانحدرت إزاء هذه الحالة البنى الفكرية للمجتمع نحو الهاوية فحصل الخواء أو الفراغ الرهيب والشاسع في روح الفرد الأمر الذي شجع وحفز المجتمع ودفع به إلى البحث عن مخرج فظهرت فكرة خلق الزعيم اللاهوتي وأن كان حتى خيالياً تكون يده يد الحاكم المطلق وهو الأمر والناهي الذي يهب الحياة ويسلبها حيثما شاء وله ( الحق الإلهي ) بتعامله الفوقي مع المجتمع لأنه قائد الضرورة والملهم الذي يُلهم أفكاره من وراء الطبيعية وبذلك انفرطت حبات العقد الاجتماعي وصار الناس على دين ملوكهم وظهرت دكتاتوريات وحكومات فاشية وتحول المجتمع إلى آليات مسيرة يقودها الديكتاتور وسادت فكرة ( البطل الشعاراتي ) القومي ، والضروري التي أثبت الزمن أنه لن يبقي من ضرورته شيئاً . وهكذا وغيرها من الألقاب التي لا يمكن المساس بها .
ونحن اليوم بعد أن تجرعنا مرارة هذه السياسة حقباً من التاريخ أضعنا الخيط والعصفور في الوقت الذي تحولت كلمة الديمقراطية إلى غيمة قاتمة في مفهوم البعض فباسمها يتم اليوم التجاوز على حقوق الآخرين وصار دم الإنسان مباحاً لأخيه الآخر وأنقسم المجتمع إلى أثنيات متعددة متناحرة بعدما تخلص من الديكتاتورية وتحولت الديمقراطية إلى (جوكر) يستخدمه البعض لمصالحه الشخصية أو الفئوية في الانتخابات وصارت أفكارهم الضيقة المحدودة التي تكاد تكون ملتصقة بأفواههم كما يلتصق (الستريج) بساق امرأة . إذ يطلون علينا كل يوم من خلال القنوات الفضائية وهم مرتدين أقنعة مختلفة المنشأ والبعض منها مصنعة في هوليود صنعت خصيصاً لمن يلعب أدوار (البطل) أو دور (الشريف) في فيلم (كابوي) و.. وهكذا تطول القائمة ويطول معها عذابنا في كل يوم ولحظة فنراهم في كل فضائية يهيمون ويقولون ما لا يفقهون ، ثم يوزعون الابتسامات المجانية بدل لقمة العيش والأمان مظهرين أسناناً كالأرز .. ويا ليت شعري لو أن أفعالهم كانت بيضاء كأسنانهم وينتهي لقاءهم والمحصلة لدى المواطن المزيد من الصداع المجاني ثم المزيد من الموت المجاني ، وخلف الكواليس يكشرون عن أنيابهم ويمزقون كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من عالمهم العلوي ومفقود يا ولدي من يحاول فك شفراتهم مفقود .. مفقود من يدنو من أبواب سياراتهم الفارهة ، ومن يذكرهم بماضيهم مفقود .. مفقود يا ولدي مع الاعتذار من روح العندليب الأسمر والشاعر الكبير نزار قباني رحمهما الله تعالى .
ما أريد قوله أننا لم نزل نختبئ تحت جلودنا وخلف أبواب فولاذية ضيعنا مفاتيحها ومازلنا لم نتحرر من الأفكار الضيقة كثقب الإبرة وهذه الإبرة حين توخز تسبب التسمم وتودي إلى الهلاك . ليست لدينا الشجاعة لمد جسر التواصل ما بيننا فكثرة الخطوط الحمراء هي التي توّلد الحواجز فتتشكل في رؤوسنا الدوائر اللامتناهية وتتسبب في تراجعنا إلى خطوطنا الخلفية الصدئة والاختباء تحت جلودنا كما أسلفت .. لذا نبدو أكثر عجزاً في تعاملنا مع الواقع الحضاري .
فإذا تحرر الإنسان من هذه القيود والدوائر المغلقة وبدأ يغرد خارج هذه المنحنيات الضيقة يكون في وسعه أن يتفاعل مع الحاضر والمستقبل .. أذن علينا أن نكون صادقين وواقعيين في ممارسة الحُب والديمقراطية ونكون متحابين لا متحاربين متجاوبين لا متجاوزين، علينا تجاوز المعوقات ومعالجتها حضارياً والتفاعل مع الواقع كمنطق لا كأسطورة ونتعامل مع رئيس الدولة كموظف لا كقائد ضرورة ولا نتخيله ماءً وهواءً ومواد كيمياوية أخرى ، وهو في الحقيقة رجل كباقي الرجال واحد منا .. عندها يمكن بناء حياة عصرية مدنية ضمن دولة مؤسسات تحترم القوانين . فالدول العظيمة وليدة جهود أبنائها ولا تبنى عن طريق الحديث عن الشاطر (حسن) وأبطال الأساطير الخارقين، وكف الحديث عن السندباد والأربعين حرامي لأن اللصوص تجاوزوا عندنا هذا العدد أضعافاً مضاعفة ، لأن مثل هذه الحكايات تروى للأطفال الذين تعودوا على النوم عند سماعها ، ولا بالجلوس ووضع اليد على الخد كما يقال ولا بانتظار (غودو) أو انتظار عودة (الابن الضال) الذي أبدع في إخراجه الفنان الراحل يوسف شاهين والمراهنة على شخصية ( القائد) أو (المنقذ) لقد سئمنا من هذه الأساطير التي لها أول وليس لها آخر، والأمم العظيمة خلقت أمجادها وبنت تحضرها بيد وفكر مبدعيها ومفكريها. الأمة اليابانية مثلاً لم تنتظر الشاطر (حسن) حتى يأتي على صهوة جواده الأبيض أو الأشهب كي يصنع لهم شركة (توتوتا) الرائعة والتي تغزو اليوم العالم بمنتوجاتها العالية الجودة ولا الأمة الألمانية بشركتها العملاقة (مرسيدس بنز) وكذا الحال بالنسبة لبقية الأمم والدول .
لقد أتخمنا وتهنا بالأحاديث الجانبية وبإطاعة الديكتاتوريات التي حكمت أمتنا سنين طوال لأجيال متعاقبة .
الحل في بناء البنى التحتية للإنسان العراقي ويعني بناء وعيهُ وثقافته كما يراها العديد من المفكرين العراقيين وغيرهم والخروج من هذه المتاهات . الحل في بناء دولة القانون وبناء المؤسسات الحقيقة وليس في حلها ، الحل في الحوار المثمر وليس الضجيج الذي لا طائل منه سوى الصداع .
أننا اليوم أمام مفترق طرق فأما أن نتفاعل مع الحاضر ونتقدم نحو المستقبل وأما أن نقطع الصلة بالحاضر ونفعّل الحقب التاريخية والتي هي معطلة لا أمل يرتجى من تزيدها . فبناء الحياة لا يمكن أن تبنى وفق المحسوبيات والعقد الطائفية والتي لا نجدها عند الأمم المتحضرة .
اليوم نحن بين أن نختار الحاضر كي نضمن المستقبل أو أن نختار الماضي ونضيع في متاهاته ، إما أن نكون أو لا نكون، فالماضي أصبح في خبر(كان) وكان فعل ماض ناقص والزمن فيه معطل ، وأما الحاضر فهو الديمومة والحركة والتكاثر ( أوكسجين – ماء – نمو – تحرر – بناء) علينا أن ننسى الماضي ونبني حاضراً مشرقاً لنا ومستقبلاً زاهراً واعداً لأجيالنا القادمة بعيداً عن التناحر والنزاع التاريخي فالأيام هذه أمانة في أعناقنا ومسؤولية المحافظة على الروابط الاجتماعية مسؤولية أخلاقية من أجل أولادنا الذين علينا أن نعلمهم الحب والتسامح فلا يمكن بناء مجتمع ودولة وقوانين وفق منظور طائفي ولا يمكن لنا بناء الحياة والمستقبل على الحقد والكراهية .
فلننظر قليلاً إلى هذه الأمم والشعوب التي تبدع في كافة المجالات ، ونحن ( أولاد النهار دة ) كما يقوله الأخوة المصريون – أن اجترار الماضي والبكاء على الطلول والتغني بسير الأجداد العظام لا يقدم ولا يؤخر، مع أدراك ضرورة احترام الإرث التاريخي والاعتزاز به . ولكن ذلك لا يجعلنا نتوقف فبتلك المحطة في الوقت الذي يسير فيه قطار التقدم الحضاري بسرعة هائلة وهو يقطع المحطات تلو المحطات . وذلك أن الحياة في تجدد دائم وحركة الإبداع لا تفتأ تمضي في سبيلها مقدمةً كل ما هو جديد ورائع . وهذه هي سنة الله في الكون ، لأن الأرض لو كفت عن الدوران حول نفسها أو حول الشمس لأختل نظام الكون وعلى الإنسان الذي يعيش على الأرض أن يتناغم في حركته وفكره مع نظام الكون الذي هو جزء منه، ورغم ذلك فأن مما يؤسف له أن البعض منا يعتبر نفسه هو مركز الكون وأن على الكواكب والنجوم والأفلاك أن تغير مساراتها لتدور حول رأسه والذي لا يصلح أن يكون الاّ عشاً للخفافيش أو أن تضرب به عرض الحائط كالبيض الفاسد. حقاً فتلك هي مصيبة المصائب والأنكى من ذلك أن كلاً من هؤلاء يعتبر وجوده ضرورة لا غنى عنها ، وأن الحياة لا تقوم ألا بها . تماماً كضرورة الماء والهواء ، ولو أن أولئك (العظماء والأفذاذ) قد خرجوا من سفينة حياتنا والتي تتقاذفها الأمواج وألقوا بأنفسهم في وسط البحر لأراحوا واستراحوا، ولكن من سوء حظنا ونكد الدنيا علينا أنهم يتشبثون بها حتى آخر لحظة من أعمارهم المديدة .
أما نحن فما زال بعضنا يتباهي ويهتز طرباً ويسكرُ حتى الثمالة لأحاديثهم أو لوريقاتهم الصفراء التي تفوح منها عفونة التاريخ المزيف في دهاليزهم المظلمة والتي يعممونها على مريديهم وأتباعهم مجاناً ، تماماً كموتنا المجاني الذي يقع يومياً هنا وهناك في هذا الوطن المثخن بالجراح فهل نفيق ونفهم ما قاله فولتير- يوماً !! وأن غداً لناظره لقريب ..

ليست هناك تعليقات: