2008/07/07

مفاتيح فاروق مصطفى

شاعر وكاتب / كركوك
درجتُ في بيتٍ كانت الحكايات والقصص تُلقى في أركانها المتعددة فالوالدة كانت حكاءة مجتهدة لا تمل من رواية حكاياتها الملأى بالمردة والجان ، كنا نتحلق حول منقلة الفحم في ليالي الشتاء أو نستلقي على سطح الدار في ليالي الصيف الحالمة فتبدأ موسيقى مروياتها بالانطلاق ونحن معها ننطلق إلى عوالمها السحرية . وإلى جانب الوالدة كانت لنا قريبة تدعى العمة (جميلة) هي الأخرى حكاءة نادرة ، وإذا أحست أمنا أن مزاجها ليس على ما يرام أرسلت في طلب " العمة " وسرعان ما تطل علينا وإذا حكاياتها تسبقها إلى الدار ، ولم تكن حكايات عادية فهي تملك أرجلاً وأيدياً وقلوباً تنبض ورئات تتنفسُ وكانت تشدنا إليها إلى درجة نتماهى في مروياتها الخرافية ونتمنى ألاّ ينتهي قصها وأن يتجمد الزمان وتتلاشى الساعات ، أما بالنسبة إلى القص المدون فأشقائي يتبارون في رواية المدونات التي يقرؤونها ، فأنا قبل أن أعرف الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله وكتبه أصغيت إلى روايتيه : ( لقيطة ) و ( شجرة اللبلاب ) ترويان صفحة بصفحة وبكيت مع أبطالها وبطلاتها واستمعت إلى حكايات ( ألف ليلة وليلة ) فاستهوتني أجواؤها وسحرني شخوصها البسطاء وعندما كبرت بعض الشيء اكتشفت عالم القصص البوليسية عن طريق بعض أترابي إلا أن تلك القصص لم تستهوني كثيراً فتركتها إلى عالم القصص الرومانسية ، ومع كتاب ( العبرات) لمصطفى لطفي المنفلوطي انفتحت لي كوة ساحرة في القص المدون فقرأت كل مدونات الكاتب المصري الموضوعة والمنقولة ، ثمّ انتقلت إلى جرجي زيدان عملاق الرواية التاريخية وجبران خليل جبران وفي أحد الأيام قادتني قدماي إلى محرابِ المكتبة العامة فدخلتها خائفاً متوجساً كأن كل عيون الكتاب والمؤلفين ترصدني ، ولكن ما هي إلا أيام وإذا ألفة من المودة والحميمية تبدأ بيني وبينها وتستمر إلى السنين اللاحقة وفيها تعرفت على كنوز القَصص الإنساني فعرفت الكتاب الأجانب وصادقتهم وأحببتهم ولا أدري كيف مرت الأيام والأعوام وأنا أغوص في عالم الروايات ، فغدت عوالمها أكثر حقيقية من الواقعِ نفسه أليس الفن هو إعادة لخلق العالم من جديد ؟ كما يصرح بذلك "ألبير كامو" في أحدى مقولاتهِ، وتماهى عنديِ العالمان الواقعي بالفانتازي ، والمنظور باللامنظور، ومن هذه القراءات غدوتُ أبصر بعين قلبي كما يعلن ذلك الحلاج ، ولا أعلم كم من الروايات قرأت وأنا إلى الآن عندما أقرأ أو أسمع أو أتفرج في التلفاز ويتناهى إلى سَمعي اسم رواية لم أحصل عليها ينتابني الحزن ، وها أنني بلغت الستين والله أعلم كم من المدونات لم أقرأها أو لم أسمعْ بها أو سمعت بها ولكنها لم تترجم إلى العربية ولكني أقول إن أجمل الساعات عنديِ وأنا على مقعدٍ في مقهى أو مصطبة في حديقةٍ عامة أو سريري في غرفتي الفقيرة منكب على صدر رواية أجول مع شخوصها وأنزاح بانزياحاتها وكلما أحاول أن أمسكهم فإذا هم يفرون من بين أصابعي فأعدو وراءَهم وغسق العمر يمتد ويمتد ليظلّل الجسد الواهن ويستر الأصوات الهابطة من شرفات البيوت المستنيمة لأصابع الإهمال وأقدام النسيان.
وفي هذهِ الصفحات مقالات كتبتها عن مدونات قصصية قرأتها في فتراتِ مختلفة من العمر وتركت انطباعات وتداعيات داخل النفس فأردت أن أنقلها إلى عالم الورق وقد نشر معظمها في جريدة (النصر) الجزائرية وصحف ومجلات عراقية كـ (العراق) البغدادية و (الحدباء) الموصلية و ( صوت التأميم) الكركوكية وهي كتابات متواضعة ولكنها تفصح عن حبي وشغفي بجنس القصص، هذا الجنس الفني الذي غدا خطابه من أخطر الخطابات الفنية لأنه يجمع إليه الأجناس كلها إلى درجة أن العديد من الشعراء في الأيام الأخيرة بدأ يطرق بوابة الجنس الروائي لما لهذا الجنس من غواياته الماطرة إلا وهي تبهج النفس وتمغنط القلب بشغفها الآسر وتوهجاتها الحارقة .

الشاعر والأديب التركماني الراحل

كتابة : صلاح الدين ناجي أوغلو
يقولون إن الموت صعب ولكن فراق الأحبة أصعب ،هاهو شاعرنا قد رحل عن عالمنا الى عالم الغيب والشهادة بعد أن تربع على كرسي الأدب التركماني لأكثر من (35) عاما وهو وإن كان قد غاب عنا لكن ذكرياته ، أدبه وكتبه مازالت تعيش معنا خالدة وستظل هكذا أبد الدهر .
إن الشاعر والكاتب والمؤرخ لن يموت، سيظل خالداً مع الدهر . نرى إن سلطان الشعراء (فضولي) قد رحل عنا قبل قرابة 600 سنة ، ولكن بقصائده ومؤلفاته مازال يعيش في كل عصر.. كذلك بندر أوغلو (رحمه الله) سيبقى خالداً على مر العصور بشعره وأدبه وتراجمه .
إن (بندر أوغلو) غني عن التعريف في الأوساط الأدبية والثقافية داخل العراق وخارجه حيث أوصل أدب وثقافة التركمان إلى كل من أذربيجان وتركيا وبلغاريا والى بلدان أخرى ، وكان جسراً بين أذربيجان والعراق من خلال الترجمة والتأليف. إنني اعرفه منذ مقتبل الشباب وذلك عندما قرأ قصيدة باللغة التركمانية في جامع طوز الكبير (جامع الرسول الأعظم )حالياً، وكان ذلك في بداية الخميسنات من القرن الماضي . وكان مغرماً بالشعر والأدب منذ مطلع شبابه . إذ ترعرع الفقيد في بيت حداد فقير الحال ولكنه كان بيتاً غنيا بالعلم والمعرفة ، فكان والده (ملا عمران) رحمه الله من رجال الدين المعروفين في طوزخورماتو ومن قرّاء القران الكريم ويمتلك صوتاً شجيا في قراءة المدائح المنظومة بحق أهل بيت رسول الله ، حيث نهل الفقيد الكثير من معارف والده في الأدب والشعر وعلم التجويد.
وبعدما أمسك بزمام الأدب التركماني وتمكن من الأوزان الشعرية والمربعات التركمانية المسماة بـ (الخوريات )توسعت أفاقه الأدبية فاطلع على الأدب التركي الحديث وأصبح مغرماً بالشاعر التركي الكبير (ناظم حكمت) ، إلى أن قامت ثورة (1958)على العهد الملكي فتفجرت ثقافته وتحققت آماله ولكن ذلك لم يدم طويلاً حيث أجهظت الثورة ، ووجد (بندر أوغلو) نفسه في المنفى خارج العراق مرغماً ، حيث قضى فترة من حياته متنقلاً بين بلغاريا ولبنان وقبرص . وفي نهاية العقد السادس من القرن المنصرم عاد إلى أرض ألوطن وعين مديراً للثقافة التركمانية بعد منح الحقوق الثقافية للتركمان وترأس تحرير جريدة (يورد- الوطن) ، فظل يخدم الأدب والثقافة التركمانية طوال عقود ثلاثة وبعدما تقاعد ،عمل كمدير مكتب في وكالة أناضول الإخبارية).
إن المرحوم بندر أوغلو من مواليد محلة (جاقالا) في طوز عام (1937)، ورغم مرضه المستمر لم يتوقف لحظة في حياته عن العطاء الثقافي والأدبي ، ويعد من رواد الشعر الحر في الأدب التركماني .
له مؤلفات عديدة في العراق وأذربيجان وتركيا باللغتين التركية والعربية وله دواوين شعرية وكتب أدبية وثقافية وتراثية إضافة إلى جهود الكبيرة في حقل الترجمة .
لو كتبنا صفحات عديدة عن هذا الشاعر والأديب المبدع ما أعطيناه حقه .. وندعو من المولى العلي القدير أن يتغمده برحمته الواسعة .. إنا لله وإنا إليه راجعون

عـش العصافيـر قاسم فنجان


(مرثية )
لقد وضع موته المفاجئ حداً لعذابه الأبدي ... قال من سجّى جثمانه و مضى مخلفاً ورائه روائح لم يألـفها دمي سابقاً .. مضى بعد أن تركني وحيداً أمام قبـره أتذكر من أجل الذكرى فقط ، جسده الذي كان يمور بالكثير .. أيعقل أن تكون النهاية هكذا؟ نعيم (*) يتوارى في قبر! قلتها وكفـّاي تمسدان التراب الذي هاله الأصدقاء على رفاته، قلتها و عيناي يترقرق فيهما الدمع و ينـزل ساخناً ليلتمع وحل ثراه ببريق أخاذ .. تسآءلت في سري المضطرب من هول المصاب و قلت : سيأتـي الجواب حتماً مـن الأغوار و ستكف أفكاري عن الهراء .. انتظرت إلى أن غابت شمس القبور و اكتسى الأفق بلون حائل أحاله الغروب لشاهدٍ مخضب بلون الدم .. سكنت الأشياء من حولي و أخذ الظلام يدب بدفقات تمحي بالتدريج ملامـح شواهد القبور الشاهقة و تحيلها إلى تماثيل مروّعة .. غلفتني العتمة بالخوف و ما انفك قلبي و القبر يتنازعان على الجواب العسير. أقلقتني الوحشة المهيمنة على المكان ودفعتني للهذاء فوجدتني أهذي هكذا : أيها النعيم القديم اليوم لملم أشلاءك الأصدقاء و سلموها هدية للثرى ، اليوم و بلطف سجّى الصحب قصيدتك الأخيرة في قلبي و مضوا ، يا من حوطتني بأسراب الأوجاع و حلقت بعيداً مجرجراً معك إلى الأقاصي كلماتي ، يا من مزقتني برياح الرحيل و سربلتني بسموم الفقد و قلت اكتب القصيدة .. لماذا و قد عشش اليأس زاحفاً بجحافله القاسية نحو الذاكرة المحتضرة ؟ لماذا و كلما أمتدت الكف للقلم قطعتّها آلاف الهواجس المريرة ؟ دلني أيها الساخر من موتك على الطريق، هيئ لي في قبرك فسحة للتحليق ، دعني أشاطرك الوحشة و ألقمني حجر الحزن لأهذي هكذا ..
أنني ميت ، ميت .. قال صوت انبثق بغتة من ثراه الرطب .. صوت جعلني أرتعد من الرعب و أرتد فزعاً إلى الوراء . مادت الأرض تحت قدميّ المرتعشتين و اعتدل من التراب اللزج للقبر شبح بهيئة آدمية ، لم تكن الهيئة آنذاك له، كانـت لآخر يشبههُ تماماً، ظهر لهنيهات و غاب مخلفاً ورائه أصواتاً هامسة ، ميزت رغم اكتظاظها صوته الخفيض ، أجل كان صوته يأمرني و يقول :
- سأفتح لك درب المجهول لتمض إليّ حيث الخوف هناك يتربع على عرش قلبي الهزيل ، حيث العتمة تفرد من هول الهول جناحيها القاسيتان لتطبق على جسدي العليل ، سأسمح لأنامل لوعتك الشديدة أن تمس جلدي الملوحّ بالعذاب ..
سرت كلماته الهامسة في قلبي حتى راحت كلماتي تنـز كالدم من قلبي قائلة : نم يا صديق العصافير آمناً في عشك الحجري ، في جسدك الرقيق يجري البحر بمركب الذكريات فلا تخشى الطوفان ، نم يا شهيق الصحب فعلى هامتك يرسم الود أكليل النور الذي لا يخشى الظلام ، يا منشد الورد الوحيد، عما قريب سيشق الأريج طريقه الملون صوبك ، فأيقظ له كل قصائدك الغافية ، اسأله غنائها و ستراه يرددها نشواناً ، سنسمعها في حقول الشعراء تصدح بها عالياً حناجر البلابل الساحرة ، ستلطخ خضرة الأشجار بترانيم آسية يطفو نشيجها فتشربه الغدران العطشى ، تشربه و يعكر صفوها الرائق النشيج المر و ترتسم في لججها المضطربة ملامح النهاية القاسية . أدركها و ادرك ما سيأتي من خراب، أفر بكلمات قصيدتي بعد أن خلفتني إزاء وحشتي أطالع النهايات في الليل منفرداً ، لا أنيس لي في متاهتي سوى ظلام يكفّن جسدي بالسواد و قبر يكفّن جسدك بالبياض ، أقول له قم يا صديق التسكع إنها رقدتك الأولى ، انتفض منها و تساوق عالياً مع النداء الحزين .
شق الوجع الشديد طريقه إلى فضاء الحلم و اتجهت أحزاني صوب التراب ، كانت تنفذ بقوة مني للظلام الساكن، تربكه فيمور بمخاض يتجلي ليّ فيه طيفاً يشبهه ، يتجه نحوي و يطالعني بهيئته التي اعرفها جيداً، يزلزلني حضوره المباغت فأرتعد من الرعب، تمتد كفاه الرحيمتان لرأسي و تطمئن لمستها الحنونة جسدي المختض من الخوف و يقول :
- لمَ الحزن ؟ لقد استحلت إلى قصيدة مشتعلة أضاءت عتمة مكاني الأبدي ، لا تحزن لقد فتحت ليّ البهجة هناك أزرار قميصها الوردي ، دعتني للدخول فيها فدخلت . ولجتها يا صاحبي فبزغت من أغوارها المنارة بالحنين الأقمار الفضية، ارتعشت فقادتني محمولاً عليها نحو شمس مسّني دفؤها فاحترقت، احترقت و تساميت حتى دخلت غيمة الشعر ، في أثيرها الساحر حلقت يسورني أحبابي الموتى ، يغسلون الأوجاع بالدمع و يميطون عن قلبي لثـام الحسرة لأفرح ، أفرح و أستل ما تراكم من حزن غالبني في حياتي الماضية .
أصغيت له و دنوت حتى اخترقني قبس من ضياء روحه الطاهرة ،رأيته متجسداً أمامي بكل وضوح على فسحة التراب التي انفتحت تماماً ، كنت أسمعه يترنم بأغنية العودة ، يسألني فيما لو كنت أسمعه أو أراه ، كنت أسمعه يتلاطف مع ما تهشم منه و يتوعد الجسد الهزيل بالرجوع ، أسمع روحه الحائرة ترنو لي بانكسار،أطمئنها فتهدأ و تغزوها بهجة السرور، ترتعش الأشياء من حولنا و يسري حمى الفرح في كل شئ، في أوج ذلك الاحتفال يرى أرواح الشعراء الموتى يتقدمهم جعفر(**) .. جعفر الذي يحتفي بحضوره المهيب ، ينبهر لمرآه و يرمقني بنظرات مرتابة فأقول له مطمئناً ، لا تخف انه يدعو الموتى لينهمكوا في معالجة جروحك الخائرة ، سيسألك عن الصحب و عن الأهل فأجب ، تهمي من عينيه الصغيرتين دمعتين تلسعان جرحه فيتأوه من الألم ، يحتضنه الصديق القديم بقوة فتهدأ جروحه المزمنة ، يسأله عن سر وجوده الغريب بينهم ، يسكت فيفضحه رجع وجعٍ ينبثق من داخله الموجوع ،يناله الأسى المر فينتبه لما حوله من يباب، يقرأ في الشحوب المهيمن على الجميع وجه الموت ، و يدرك أنه ميت و إنهم ميتون .
يرتعب في الحال من الحال الذي آلت إليه حياته الفقيرة ،ينكفئ على وجهه من الفزع ، يهوي ويرفع بدنه الرقيق جعفر، يستقيم و يبهره سطوع البياض الذي تتسربل به روحـه الشفافة ، تصفع وجهه ابتسامة بيضاء يطلقها الصديق ، يخاله يسخر منه ،فينزعج ويبكي ثم يضحك و يضحك حتى تتنـاهـى القهقهات للموتى ،يصطفون للضحك و يضحكون حتى يبكون من الضحك ، تصدح حنجرته المثقلة بالشعر و تأمرهم بالإذعان و الكف عن البكاء ، يصغون لصوته و هو يستبدل الدموع بالقصائد ، ينصتون لرجع الأوجاع المريرة ويكفّنون بها ما تبقى من أحلامهم النحيفة ، يضحكون من البكاء الشديد و يصفقون له بأكف الشوق فيسيل الحنين الذي لا يحتمله قلبه العليل ، يسيل الحنين و يلعقه قلبي أيضاً ، قلبي الذي يقاسمه العتمة و يشعل بدلاً من روحه روح الشعر، تحاصرنا فجأة روائح الفناء العطنة القادمة من اللامكان فيـسورها الشاعر بأزهـار القصائد لتعبق في لحظة المحنة روائح القصيدة الزكية .. أتشممها و أسكر من الوجد و يستحيل مـوته المؤلم إلى حياة باهـرة ،في مخاضها العسير أرى روحه تنبثق من سجن الجسد المتين لتدخل في حقل السحاب الفسيح ، تسمو محلقة في أعالي السديم، تطالع من هناك بدنه الذي سجّوه في القبر و انصرفوا ، يتأمله معي بغرابة و يقول :
- انه جسدي ..
اجل .. انه جسدك الذي من أجله الآن تهبط محققاً حلم الرجوع الأخير ، ستصله عما قريب و سيأذن لك حارس الموتى بالدخول ، ستدخل و على سرير الحجر تنام غير مكترث بشئ ، تحلم بالفجر الذي لملمك مرة ومضى ، في غبشه القرمزي تفتش عن سنوات عمرك الزاهية، بأيامها تطالع هوس النهارات الجميلة، يركض حذاء ما انصرم من لياليك الأجمل ، لحقولها الخضراء ترنو فتأخذك حمية الورد هناك حيث الحياة تدعوك لتتقدم اليها ،تتقدم و يشتد وجيب القلب الذي كان يقلقك فيما مضى وتنبض الحياة فجأة في قلبك ، تضج بضجيج العمر حينما تتسلل خلسة من دمك الروح إلى خيوط الكفن الصفراء ، تتشرب بها الأنسجة الميتة و تستحيل إلى ريش يغلف جسدك بالأجنحة .. تخال رفاتك و قد صيّرها الحال إلى طير أبيض ، تصفق بجناحيه بقوة و تحاول التحليق فيرتطم رأسك الصغير بسقف اللحد ، ترتد إلى الخلف و تعيد الكرة و لا تقوى ، تحضر روح الشعر المسعفة وتحرقك بمخيالها، تلتهب القصائد بقسوة و يشعل لظاها قش موتك الثقيل ، تتجمر الكلمات الشفافة و يعرّج بك دخانها الذهبي صوب الأقاصي ، تسمو تاركاً لرمسك الخواء طائراً صوب سماء تستقبل غيومها وجهتك بالندى، يطهرك العروج السماوي و يجلي عن هيئتك شحوبها الشديد ، تندهش من شدة البياض الذي يداهمك بسطوعه الوهاج .. تشرع بترتيب جراحك القانية على مصاطب الغيوم ، تغسلها فتفر الأوجاع منها متبوعة بالأنين ، تصغي لأجراس الشفاء تترنم بها أسراب العصافير التي تكلل رأسك بالسرور ، تطربك زقزقتها الغريبة فتهمس لها بالمزيد ، تزداد و يباغتها نقر وحشي تشق مناقيره الحادة حناجر العصافير ، ترى الهلع المرتسم في عيون الطيور الصغيرة و تسمع استغاثاتها مدوية في قلبك الرقيق ، تفتح لها راسك لتدخل و تدرك أن لامناص من الغياب ، تهرب العصافير المعششة فيك عالياً، و تخلفني وحيداً أمام قبر خاو لم يقو على طمر جسدٍ صار عشاً للعصافير ...
* نعيم الخباز : شاعر شعبي عراقي و لد في الناصرية و مات فيها مريضاً بالبلهارزيا بعد أن عاش الجزء الأكبر من عمره في كركوك. تتسم قصائده بالسخرية اللاذعة و التهكم الجريء و له أسلوب متميز و خاص في كتابة القصيدة العامية .* * جعفر موسى : ممثل مسرحي و قاص و شاعر ولد في كركوك و يعتبر من علاماتها المسرحية المهمة . سكن قلبه فجأة في أحد شوارع المدينة ، و مات بعد أن أثرى المسرح العراقي بأعمال كثيرة في التمثيل و الإخراج .


دفاتر الشعر

جاهلية
شعر :
سراج المياحي

أبي المخضرم
هدّ سقف غرفتي
وارتأى أن ينصب لي خيمةً
ويفترشها رملاً
ويؤثثها قنديلاً وحصيرا ًوجرار
أقال كل أشيائي الالكترونية
وصادر النوافذ
وأبطل كل قوانين القرن الحالي
ألبس زوجته خماراً
واكتفى بشرح المعلقات لأخوتي
وحين أستجار الجيران
من بيتنا الجاهلي
أعتذر أبي وقال :
دعونا
أبني صعلوك جيّد !!

أغاني السائر في نومه
شعر: عبدالعظيم فنجان
امرأة
من مرآة إلى مرآة واصلتْ امرأة نقل بهائها في المرايا ، تاركة في كل مرآة أثراً واحدا ، يختلف من مرآة إلى مرآة : في قلب كل مرآة امرأة تسير على ضوء شمعة ، حتى تنطفيء الشمعة ، فيظهر إثرها رجل يجمع آثارها ، من مرآة إلى مرآة ، لكنه في لا نهائيات رحلته يصل إلى امرأة أخرى ..
أغنية الطير والمرأة الهاربة
أعرفُ أين تنتهي أسطورة المرأة الهاربة التي يسير ، في نبضها ، العاشقُ ، ولا يصل إلى محطة قلبها إلا بعد أن يتفكك ريشة بعد ريشة ، كما طير يبيع حنجرته من أجل أن يفوز بأغنية ، لكن ما
أعرفه لا يعني أن القرعة قد وقعتْ عليَّ ، أو أن الرحلة قد انتهت عند هذا الحد .
لا أريد أن أتعفن بالعيش داخل غرفة المعرفة ، نائما على وسادة من أحلام الكتب : لابد من تحطيم زجاج نوافذ الطمأنينة ، والطيران على متن أعتى العواصف ، من اجل نصيبي من الجمال الذي لا يطاق ، من اجل كِسرةٍ من خبز الخيال ، ولأن هناك مقاطع ناقصة من الأسطورة اقتطعها الآخرون يجب أن أستعيدها .
لن يثنيني أحد عن العودة إلى البداية ، حتى لو كلفني ذلك أن اخسر الأغنية التي من أجلها بعتُ حنجرتي : أنا الطير الذي فككه الآخرون ، ريشة بعد ريشة ، وهم ينهبون تلك المقاطع من مسلة قلبها قبل وصولي .
أبيات
أبيات أوحت بها امرأة ، ثم جفّتْ داخل الرأس ،
فلم ترفعها إلى مقام الورقة .
أامرأة أوحت لكَ بأبيات ، أم الأبيات أوحت بامرأة ؟
إذا كانت امرأة ، فأين تاجها ؟
أين التاج ،
وأنتَ ، من ورقة إلى ورقة ، تطارد أبياتا أوحت بها امرأة ،
وتكب أبياتا توحي بامرأة أخرى ؟
أبالقصائد تلوذ حين يخذلك الأمل ؟
أغنية السائر في نومه
احلمُ أن أصير طائرا :
احلق ، برهة ، فوق الورقة ، مترنحا كما لو كنتُ فوق حقل ،
ثم أسقط ، عميقا ، في الحقل .
احلم أن التحق بمقاطع من طيور
ترفرف فوق رأس امرأة :
برفق سأقود الطيورَ إلى الورقة ،
ثم أطوي الورقة .

اكتشافات
شعر :
محمد أحمد آمرلي
قارورة عطر
كسرتها الحماقات
ليلة موت البنفسج
وسقوط مرايا الروح
احتفالا بهشيم لن يتكرر
المرأة بين أربعة جدران
تهمة باطلة
وأنا ضحية
الحروف الشاردة
من جسدها
الظلام مدخل لكل فضيحة
والموت
نهاية نكتشف بها أنفسنا
الآلام قطط متوحشة
تحفزنا بمواءاتها
ولا سبيل للجسد غير احتضانها .

علاقة مضرة
شعر : ماهر عبدالله

لا فرقَ
إن وَجّهْتي لي سؤالاً
أو .. صاروخاً ربما
لأنني سأجيبُكِ بكلِّ ما أملكُ من حُطام
فقط أقنعيني .. بأنّ التـرفَ الذي في خديكِ
ردةُّ فِعلٍ ضِدَّ الربعِ الخالي
وإن رأسَكِ المدنيَّ هذا
لم يبدِ اهتماماً بأفكاري البدائية
ولم يعِ .. أنني كنتُ صغيراً جداً
حينما كنتُ ..
كلما أخصي بعوضةً .. يولد هورُ الحويزةِ تحتَ مروحتنا
كلما أختلي بأمعائي .. أخلف أشياءً تشبهَ الجامعةَ العربية
كلما تجوع الحروب .. تهرع أمريكا للتسوق !
كنتُ ..
مُعادلاً لطفولاتٍ سقطتْ من سحابة
مناقضاً لرعودٍ امتلأتْ بآباءٍ حجريين
وأمهاتٍ لم ينضجنَ بعدُ لرضاعتي
كنتُ ..
كثيراً ما أخالفُ أبي ، وأبيه
حينما ينتعلُ قدميهِ ماشياً على أمي
وهذا صحيحٌ كلُهُ
أليسَ صحيحاً ورائعاً .. أن يكونَ المرءُ شجرةً أو حائطاً مثلاً ؟!
لا يميلُ مع الريحِ غالباً .. وغالباً لا يستندُ عليه أحد
صحيحٌ أنني أحبك ..
لكنني سأقيمُ علاقةً مع حائط !
ومن أجلِ كلِّ هذا الصحيحِ .. وهذا التـردي كلِهِ
عليكِ أن تتفهمي .. ولا تفكري
فأنا أحبك لأتعلمَّ الشعر
مرةً .. أكلتُ قصيدةً .. فخلّفتُ حُكاماً رطبين
وسرّحتُ رأسَ الشعرِ مرةً .. فسَقَطَتْ قملةٌ تُفلّي رأسَها مني !
كمْ مرةٍ تستجوبينني عن كلّ تلكَ الأشياءِ المتعفنةِ في رأسي؟!
لم تنته
شعر :عبداللطيف بندر أوغلو
ترجمة : صباح طوزلو
استمعنا
بحزن وألم
إلى الأغنية
القادمة صداها
عبر سراب
الطرق البعيدة
لم تهدأ آلام جراحاتنا
لم تنته أوجاع قلوبنا
على آمالنا سيطر الظلام
في داخلنا
اهتزت الأحزان من جديد
وفيها تكونت الزلازل
واشتدت العواصف
الأرض ابتلعت أحبائنا
طرقنا التي كنا نشتاق
لسماع أغانيها قد أغلقت
لوجوهنا من جديد
بعد العهود الطويلة
ننتظر بصمت
بضجر
بقلق
الإشراقة
التي تبدد الظلام
الملتف من حولنا .

هرمونيطيقا الشك

فاضل حسين
كاتب ومسرحي / كركوك
بول ريكور ( 1913 – 2005 ) فيلسوف فرنسي اشتغل في حقول متعددة شملت اللسانيات والأدب والتحليل النفسي والبنيوية والظاهرية والوجودية وقد تعزز حضوره منذ عام 1983 بعد صدور كتابه ( الزمن و السرد ) الذي أنفتح على مفهومات الزمان والذاكرة والهوية والأنا والآخر والفعل الإنساني والأخلاق .. وهرمنيوطيقا الشك عنده موجهة بشكل مباشر إلى نقد الأيديولوجيا ونزع قناع التفسيرات الخاطئة أو المشوهة للمجتمع والآراء التي تفرض على النص من قبل القارئ الذي يجلب إلى النص اهتماماته المميزة وتأكيداته وإحكامه المسبقة وفهمه الأيديولوجي المسبق .. وبقدر تعلق الأمر بقضايانا الفكرية والمفاهيم التي أفرزتها الأوضاع الحالية سأُورد بعضاً من مقارباته حول التأويل والشك والأنا والآخر..
يقول بول ريكور : للمحادثة روحها الخاصة .. ففي المحادثة الحقيقية يكون الموضوع المشترك هو الذي يربط الطرفين المتقابلين مع فعل الفهم نفسه وبلوغ التوافق .. وكلما كانت المحادثة أصيلة قل اعتماد إجراءها على أداة أي من الطرفين.. وعند وجود أدنى شك يتطور التأويل ويخرج عن سكته ويستعصي الفهم والاتفاق بين الطرفين، ويحدث عندها أن الطرفين يتحاوران بلغة غريبة متبَّلة بالحساسية والخداع .. وعند التطبيق العملي في الحوارات السياسية يحاول كل طرف أن يسقط رغباته وتراكيبه العقلية في مفهوماته الخاصة ، بصراحة مستلة من الولاء وينشغل المقابل لوهلة بالإصغاء والسماع واضعا يده على مقبض خنجر الشكوك .. كل طرف يحاول أن يتقنع بقناع زائف ويري لنفسه ولجماعته صورة جميلة تناقض الواقع مزدانة ومؤطرة بأكاليل النبل والأصالة والمودة .. وهناك من يعاني من مشكلة عويصة وقد وصلت قناعته المسبقة بأن آراءه هي الصحيحة وآراء الآخر مشوهة وغير دقيقة تنقصها المصداقية ولا بد أن يتخلى عنها ويقر ويؤمن بآرائه هو .. لا .. بل ويعترف بخطئه ويتنازل عن جزء أو كل امتيازاته ( في الوطن الواحد الذي من المفروض أن يعيش فيه الجميع شركاء متساوون ) وينتظر الصدقات الجارية بين حين وآخر .. أذن هناك خطاب من وراء أنفسنا ورغباتنا ومبادئنا وأيديولوجياتنا وبرامجنا وهي تناقض العرض الظاهر .. أن الذين يعانون من الشكوك وفوبيا الآخر سيكون من الصواب القول أنهم متورطون في تهديم الأفكار والتوافق والإبداع ويسعون لجعل الحياة أكثر سوءاً وقناعة .. هؤلاء وأُولئك يراهنون على غباء المتلقين ويحاولون وضع القناع للوعي و التواجد باتجاه المغايرة والسفر خارج المكان والزمان والانخراط في عالم سفسطائي يبقي الشك قنبلة موقوتة ودائم الحضور.. هناك هيمنة لمفهومات وأحكام مسبقة تثير التساؤلات حول جدوى المحادثة والتواصل .. أن سؤال الشك إلى البحث عن الحقيقة عند العديد من الفلاسفة والمفكرين في الشرق والغرب .. وقد أتخذ الفيلسوف الفرنسي وديكارت " من الشك سلماً للوصول إلى منقطة العقلاني المعروف فالذي يشك يعني أنه يفكر بالضرورة، حتى الذي يشك في أنه يفكر فمثل هذا الشك يقتضي أنه يفكر أيضاً .. والذي يفكر فهو موجود بالضرورة ( أنا أفكر أذن فأنا موجود ) .. يقول ديكارت : أن اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا أعقل من بعض ، وإنما ينشأ عن كوننا نوجه أفكارنا في طرق متباينة ولا نرى الأشياء ذاتها ) .. ويقول الفيلسوف بول ريكور : عليّ تطبيق الشك على ذاتي .. هل أنا الذي يفرض المعنى على الآخر؟ هو يجوز لي ذلك ويحق لي ؟ .. وهل يقول المنطق السليم هذا ؟ .. هل يجب أن نضع للآخر قياساً خاصاً وحسب فهمنا المسبق ؟ وهل من المنطق أيضاً وعرف الدين والإنسانية إيصال حقيقتنا أو منطقتنا أو مفاهيمنا المختلفة وغيرها للآخر بطريقة مروعة وعلى شكل هيمنة شمولية مطلقة ؟ .. يجب أن يفهم بأن الآخر ليس مجرداً ولكنه آخر محسوس ملموس شريط فعاّل.. ( لا يمكن أن تصبح تجربتي هي تجربتك .. ولا يمكن أن تنتقل ملكية حدث ما من تيار وعي أن إلى تيار وعيك .. ) أن التخاطب والمحادثة والتأويل والتواصل بهذه الطريقة سرقة وهضم ولجم الآخر بمسوغات أمقل وصف لها بأنها عميلة غير إنسانية وغير حضارية .. وأن ( الذي يشرب الماء الممجوج مرة دون يدري لا يقترب منه ثانية .. ) لكن أولئك الذين يستهينون المنصب والسلطة يجدون طعم ذلك الماء الممجوج أشد حلاوة من الشهد .. أن الفيلسوف بول ريكور كتب مثل هذه القضايا الحساسة في بلد متقدم ولو كان عاش بيننا فلربما كتب أفكاراً أشد قتامة وسوداوية .. وربما لم يكتب شيئاً ..

متابعات ثقافية كتابة : هشام القيسي

الأب يوسف سعيد
شعره وشاعريته
(1)
وهو ينهل من معين اللاهوت، يدرك ماهية أن تتسع به الرؤية، وبالتالي الأفكار،لأجل الحكمة والكلمة عبر نفس ترفرف بالمحبة، وبمسار متلائم متلازم،وببهجة ترنو لها كل مهجة.إذ يبحر في نفسه، يجعل كل شيء في مكانه،فهو يعرف ماذا يتأمل،ويعرف ماذا يريد، مثلما الشعر يعرف حين يدخل تحت مبايعة الأسرار. كل شيء عنده يفرح ولا يريد البكاء. غير مكبل وهو يلوي الآلام، يصعد شجرة الشعر، ولا يلقي بالأحلام من بئر النسيان. يتساءل ولا يهدأ في الصبح مثلما في الحكمة والجذور،والزمن الذي يطوي بعض أقاويل العالم، وألسنة ضيوف نزلوا بعيداً في وليمة المحنة. انه من أمطار الصدق، يبحث عن الأسئلة ويطلق السكينة. هذا الطهر، وهذه الشجرة تجود، وهي ميزة الشاعر في فواد البراءة. أشهر العبارة ، ورأى أياماً تملؤها كل الصرخات. الأب يوسف سعيد، راعي الكنيسة والشاعر، يلقي في باطن الشوق أزهار الرهبة، ويكتب في أمان الدار بعض هذا العذاب، وهذا الذي قيل في الماضي وعن الحاضر.
هو يدري إلى أين، وما الحيلة .يلتمس في خوف الصواب حمامة البريق،و زيتونة الأمل، بالعقل وبالحس.وبأنهار الروح يرى كل الطفولة، ويرى الحياة،والبراءة وما تريد، وبها كذلك يرسم الأنوار في انشغالات الأفق.ولهذا فالحديث عن الراهب الشاعر هو فعل في كل هذه الأبواب التي تحدق دون رتابة أو تفكك. هو استيقاظ معبأ بجذور الضوء تشهد له الدائرة المضيئة، وتتعانق كي تعلن بان العشب منذ الفجر يلوح بروح الحرية. لا تهدأ أشعاره في كل ذلك ، منذ أن هبط إلى العالم عام1936 في الموصل لينغمس في علوم وتعليم المدارس الكنسية بأديرتها. وفي ذات الوقت تتلقى المكتبة الشعرية دفقا من مجاميعه البهية، حملت بعضها العناوين التالية :-
أ- الموت واللغة.1968 / ب- ويأتي صاحب الزمان.1968 / ج- طبعة ثانية للتاريخ.1997/ د- سفر الرؤية / هـ- الشعر الآتي . 1986/ و- الشموع ذات الاشتعال المتأخر.1988/ ز- مملكة القصيدة.1988/ ح- حضور الإبداع. 1989/ ط - فضاءات الأب يوسف سعيد.1999 / ي- السفر داخل المنافي البعيدة.
جاء إلى وطنه العراق في العام 1986 ليشارك في مهرجان المربد الشعري. وبالإضافة إلى الشعر، يكتب النقد وله دراسات عميقة ونصوص ثرة .
فيما يعيش الموت كحقيقة واقعة،يجابه بانسيابية وانفعالية،النفس، لأنه يدرك إن الصمت هو فراق دنيوي. وهكذا يكون الرجل مساحة أرحب في إسقاطات الخروج عن وهمية الأشياء نحو يقين الفضاء وتوهجاته :
( أكنت ذات يوم إلهاً؟ قذى ؟ صخرة؟! بلى كنت تراباً أدثرُ رأسي بالموت واللغة
ننشد في هيكل الكلس
تتمطى اللغة في مركبات القواميس
الشفرة الغامضة غامضة ! ).
من قصيدة الموت واللغة. مجموعة الموت واللغة
وبمقدار ما يصعد في عوالم اليقين،ويبتعد عن العبثيات،يكون الموقف إزاء القضية / الحقيقة التي لابد منها من المسلمات التي تغفو عليها النفس المؤمنة. وهذا الانقياد إرادي ولا إرادي :-
( من يلمس الموت؟
حكمتي أن ارقد
أنام
أنسى القيامة الميلاد ).
من قصيدة استسلام/ م .الموت واللغة
انه مدرك لآليات التفاعل الذي يأخذ جانباً كيميائياً، في إشارة إلى عملية الفناء المادي، وتحليق الروح في ديمومة أبدية ترعاها حقيقة مطلقة، عبر تساؤل خالد :
من يشتري العفونة من تابوت قيصر
من يشتري الحياة !!
من قصيدة الخلاص / م . الموت واللغة
في فضاءات الأب يوسف سعيد تحليقات وتوهجات شعرية جامحة،متدفقة، متلألئة بعمق ديمومة السر الروحي والمبنى المادي، وانسيابية ذلك، وكل في نسق، وتحول، وأسرار، وتواصل وتفاعل تأملي عميق. إنها منهل الروح في مسار التواصل تتشابك فيها عوالم غير محددة، توظيفات شعرية رحبة،تصورات نزيف اللاشعور في قصائد الديوان نلمس كيانية بمصداقيتها وحرارتها، بمعانيها وشحناتها، بمغادراتها ومقارباتها. في كل الأحوال هناك نمطية نظامية تنساب فيها قصائده، تشع وتتفجر فيها أسئلة تتأتى من تناغمات متآلفة وشبكية :
الأرض تحتضن في أحشائها مهجة النور
تتلقى قطرات الندى والغيوث في صدر الجلد
أيتها الأرض،
وجهك قطعة من شرائح مطر البركات
بذارك من برارة النجوم البعيدة
الأرض تخبئ في أوداجها منازل الظلمة..
هذا النص يقف على جدلية تودعك بالتفاتة إلى دلالاتها، حيث مبدأ الوحدة العضوية طبقاً لتناغمية الإرادة التي إليها المرد.
الأرض تحضن في أحشائها مهجة النور أو ( الأرض تخبئ في أوداجها منازل الظلمة
ولهذا فالأب سعيد يلم بهذا المسار، وبعفوية، وإيمانية تعمق الصورة،وتجعله نواة لا مداراً.
في قصيدة التراب نجد القدرة البارعة على استيعاب الدفعات الشعورية المتعددة الدلالات والمعاني،وفق مرونة تشيع فيها الظاهرة الفنية التي تندرج في أتونها كامل المخيلة،والهواجس،والتلهف. إن تنامي أدوات الحكمة في أبدية السر،هو عنصر التفريغ الذي يشيع طابع إشباع النفس، وتجلياتها بطريقة فنية تؤشر ترابطاً متجانساً متعمقاً في إطار وعي وباطن الشاعر،ولهذا نجد المنحى الفلسفي :
تراب يعانق البحر
ويلوح لبيارق قوافل سفنه وبواخره
يحرر أعصابنا من شوكة الجسد
وسياق الحكمة الأزلية:
تراب أنجب أباه ونظم تاريخ عشائره
تراب في قصور الملوك
يستريح منجل الحصاد على تراب القمح .
ثم الوحدة الأساسية لكنه عملية الخلق والوعي واضاءاتها المرتبطة برؤية،وافق، وعمق الاختيار :
( تحسس حده التراب
وسادته من تراب
لحافة من تراب
عظامه من تراب ).
وتأتي رائعته المفتوحة في أسفار اللاهوت، ومحطاته الرسالية عبر خطابات وأمكنة، وعبر تناغمات وامتدادات في مسارات روحية رحبة،بتجليات ومناشدات، لتشكل ديوانه الثاني في سلسلة إصداراته الشعرية. فمن صفاء اليقين،ويقين الصفاء،وعبر صوفية مسيحية وينابيع لاهوتية،تكون مقاربات الأمكنة والرموز أسفاراً متواصلة في مسالك المحبة،تبقي على الحقائق في تحليقات عميقة طليقة في سموها الروحي :
( سيأتي في ساعة بلا ظنون )
وكذلك
( سيأتي صاحب الزمان في اللحظة البكر
في هبوب النسيم على الرعشة الجفون ).
في هذه القصيدة- الديوان، تتكشف الصور، وتتداخل، وتتعدد الأبعاد، وقدوم الرمز(صاحب الزمان) معطى إيماني حوله الشاعر إلى عناصر وهاجة شعرية،أكسبت تجربته أبعادا اتسمت بالخصوصية، وكانت لها هوية:
(سيأتي صاحب الزمان في اللحظة البكر)
في هبوب النسيم على رعشة الجفون.
سيأتي بعد أن يستنزف من أصابعه الخمسة رعشة الأشواق
سيقول لهذه الجحافل المنتظرة،
عمموا هاماتكم بألوان من قوس قزح،
وادخلوا في سجف السنين ثانية
لينام الوقت محنطاً في أوداجكم الوردية ).
(3)
في قصائده الأب الشاعر انسيابية،وعفوية تشير إلى دفقات سريالية الملامح، تسقطها أحلامه، ورؤياه، في خضم موجات الوجود والحكمة. إن الانفعالات،التراتيل،الطبيعة والغناء،الوجود والفضاءات الرحبة، تنبع من أحاسيسه لتنساب في شعره بأبهى رحلة تغرق في الأمكنة والأزمنة بمقارباتها وتواصلانها. هذه النصوص من مجاميعه الثلاث رحلة في أسفار اليقين.
1-الموت واللغة/من ديوان (الموت واللغة)
في سطح لساني عرق أخطر
ينز على بوابة مخي
لغة الإشارة والضحك والنحيب والرموز
أكنت ذات يوم إلها؟قذى؟صخرة؟!
بلى كنت تراباً
أدثر رأسي بالموت واللغة
ننشد في هيكل الكلس
تتمطى اللغة في مركبات القواميس
الشفرة الغامضة غامضة!..
2- استسلام/من ديوان (الموت واللغة)
سيبح الموت ُ أصابعي
انفصلت الروح عن الصدأ
من يلمس الموت؟...
حكمتي أن أرقد، أنام، أنسى القيامة الميلاد
أبيع في سوق النخاسة ذاكري وصداي وقميصي.
عشيرتي تبكي … هل في أفريقيا فردوس؟!!..
3- من قصيدة( ويأتي صاحب الزمان )
سيأتي صاحب الزمان في اللحظة البكر
في هبوب النسيم على رعشة الجفون
سيأتي بعد أن يستنزف
من أصابعه الخمسة رعشة الأشواق
سيقول لهذه الجحافل المنتظرة
عمموا هاماتكم بألوان من قوس قزح
وادخلوا في سجف السنين ثانية
لينام الوقت محنطاً في أوداجكم الوردية..
ويبقى البحر ثانية.وقد كُبلت أمواجه الدهرية لأيام وسنين،
وعندما يتحول الإنسان في كل مكان إلى رقيم مطلسم
يأتي صاحب الزمان على حافة الحفر البابلية..
عادة في الصباح الوليد يقرأ قصائده
وفي المساء يوقع على قيثارته
ذات الأوتار العشرة مزاميره الرقيقة..
(2)
موناليزا حبيبتي
للأديب محمد خورشيد قصاب أوغلو
مشاهد تعزف على الذات عشقاً
محمد خورشيد قصاب أوغلو في قصائده التركمانية موناليزا حبيبتي يحب، ويرتمي ويتغنى في زمن يكون الترنم فيه مشهدا يعزف ويدور على الذات، يقيم فيه عبر تقرير واختيار، وتألف ونشوة وأسرار.بل يعانق بطقوس هي صنو الحياة، قوامها المعاناة، والاستعادة، والفيض المنساب من البراءة :
في كل ليلة
تبقى عيوني معلقة بالأفق
إلى أن يطرد ضياء الشمس
بحور الظلام
وستعيش في مخيلتي
حكايات وحكايات
أكثر من حكايا
ألف ليلة وليلة (1)
وهو اذ يبث حنينه الهلع، وفرحه البريء، عبر عفوية وصدق، تتقاطع مع كل التعقيدات، فكأنما يحفر وجده النفسي. حيث ينتشي بألق سعادته فيها، وتستحيل الصور إلى وجدانيات تتغنى بأية العذوبة المبذولة في الحب من خلال انسجام مع نفس الشاعر، وبلا انفصام بينهما :
والحب يتأرجح بيننا
مرة أقول ابتعد وأخرى أقول اقترب
وبين البعد والقرب
تضيع الأيام (2)
انه ينشد الآلام التي لا تخمد أنفاسها، لتبقى من استيقاظها عطرا ينهال من الداخل، وتوحدا له مظاهره وسماته ، تلتمس فيه تجربة إنسانية صافية، مفتوحة الكوى ، وليست تشبيهية أو افتراضية :
مثل كل الليالي
ستمضي هذه الليلة
وأنا مفعم بالانفعالات
دون أن تحمل الرياح
صوبي..
نفحة من طيبك
ونتفا من أخبارك
والشاعر يعود إلى بدايات، يتحرى فيها عن أحوال تخشع ، وأجراس تقرع، وطمأنينة تتسع، فهو المتأمل الصاعد من الأعماق، مخضباً بالأمل والألم ، بالحنين والندم ، بالمناجاة وقبول أوراق الحياة :
عيناك
زرعتا الآمال في قلبي
و شفاهك العذبة
تود الترنم بلحن شجي
كلماتك أعذب من السمفونيات
سيمفونيات بيتهوفن وجايكوفسكي
وشوبان
وصوتك ترنيمة هزار
ووجهك مثل القمر (4)
عراهُ العذاب في سوائر لا تجد فيها إلا ضياعا ً في مفازات الهواجس، ومواسم اللوعة المستقاة من بيئتها،وذكرياتها حتى يستحيل إلى ما يماثل الوشم ، والصورة ، واللون :
مع كل صباح سأدخل إلى نهارك
أحاول أن أضئ ساعاته
وأن أخد لعينيك
معنى الود والتضحية
والإخلاص
التي
ما عاشها
يوم وجودك (5)
وحينما يطبق الليل ، ويرخي جدرانه، تبقى إشراقة الفداء بهجة يسري نسغها في عروقه بلا تردد أو صمت أو انقطاع فالقضية وهمومها، عذاباتها وتحولاتها ، طهارتها وضوءها، كل منها على أوتار المبادئ تنشد ، ولا تخمد :

احبك مثل الخبز والملح
احبك
مثل حبي للأغاني
والخوريات
احبك..مثل حبي للعراق
احبك مثلما أحب كركوك
وبغداد.. وكل ذرة من تراب الوطن
احبك مثل كلمات المحبين .. والشعراء (6)
هو يولج في طبقات العشق، متناولاً أراجيح صوره ، وإطلالات دون فيها سيول انفعالاته المخضبة بالصدق والممهورة به، تفيض من الوجدان والإنسان :

هربت من وداعك
لأنني عرفت
إن حبك لي
بالنسبة لحبي لك
ليس حبا (7)
انه يتغنى ،وما يؤثر فيه هو هذه الطقوس الجارية من ينبوع القلب، الذي ينجي ،ويطلق للصفاء عنانه ، وللصدق معانيه ، وللألفة مغزاها. فهو يبصر ويتحرر، يتكلم ويتألم ، يستطع ويقتنع ، يحدد ولا يتبدد، في حوارية الواقع - الوجدان ، الواقع الأمل :
منذ أمد من الأعماق كلمة
منذ أمد بعيد
لم تغب عن عيوني عيناك
أنت الصفاء..في الليالي
أنت نهر الحياة
وحلم والأحلام
و يوم والأيام
أنت حبيبتي أنت
أنا حبيبك أنا (8)
تلك موجات قائمة بذاتها، تنهل من سياق حواراتها، ومن لغزها وسحرها ،من كنه العاشق والمعشوق، من نداءات المحب ومخاطبات المحبوب .إن الشاعر محمد خورشيد إنما يعبر عن معنى الحقيقة والسعادة، وما يرقد فيها من إخلاص، و وجدانية ، وأناشيد فرح تنبع من تجربة حياتية و رؤيا عاشقة.
الهوامش
(1)موناليزا حبيبتي ص11
(2) موناليزا حبيبتي ص14
(3) موناليزا حبيبتي ص16
(4) موناليزا حبيبتي ص19
(5) موناليزا حبيبتي ص24
(6) موناليزا حبيبتي ص12
(7) موناليزا حبيبتي ص25
(8) موناليزا حبيبتي ص28

الشعر التركماني

دراسة في أشعار عبداللطيف بندر أوغلو
تأليف : هاني صاحب حسن
عرض : بهجت صادق إبراهيم
رحل عنا الأديب والشاعر د.عبد اللطيف بند أوغلو، وترك لنا أوجاعاً من الحزن والأسى لا تنتهي، ورحيله يعد خسارة تركمانية لما يمتلكه من مواهب أدبية بالتزامه الصادق في التعبير عن همومه الوجدانية والقومية والوطنية والإنسانية ،حيث خلف وراءه إرثاً أدبياً خصباً في اللغة التركية والعربية من أشعار ودراسات تاريخية وأدبية والترجمة بلغت زهاء (37) كتاباً، إضافة إلى جهوده الفياضة بإدامة إصداره جريدة " يورد " التي تعتبر أول جريدة سياسية وأدبية متواصلة لأدب وثقافة التركمان عبر ثلاثة وثلاثين عاماً.
يقول الأديب احمد محمد كركوكلي بصدد رحيل بندر أوغلو بمجلة (بنار) بعددها (16) ((جريدة يورد، أصبحت مدرسة متميزة تخرج منها هذا الجيل الذي يكتب ويدخل الساحة الثقافية بكل جرأة، جمعت كبار الكتاب والأدباء والشعراء ووضعتهم أمام مسؤولياتهم الوطنية و القومية في ترسيخ القواعد والعناوين وتحفيز الشباب على التفاف حول أدبهم وثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم الرصينة وتحفيزهم على الكتابة والبحث عن الجذور)
ويقول "قحطان الهرمزي "في مقالة الموسوم "الانتماء في شعر عبد اللطيف بندر أوغلو "المنشور في جريدة الأديب البغدادية {لقد كان بندر أوغلو في تلك الآونة الحرجة من حياة التركمان سفيراً للغة التركمانية وأدبها، جعلته متمسكاً بلغته الأم بصورة أكثر إصراراً. لذا نراه في قصيدته "خطوط لأجل الوطن "
"إذا نسينا لغتنا الأم
الأجيال القادمة سوف تحيد عنا
وأحفادنا سوف يتخلون عن حبنا "
لقد استنفر بندر أوغلو الطاقات الكامنة في اللغة التركمانية كافة لتوظيفها في الغناء للعراق والانتماء إليه بلغة التركمان ، فأصبح بذلك أهلا ليكون سفيراً للشعر التركماني الساكن في قلب الوطن العراق . أجل يستحق بندر أوغلو أن ينضوي الى كوكبة شعراء الأصالة بالتزامه الصادق في التعبير عن همومه الوجدانية والقومية ... ونود ان نعرض كتاب ( الشعر التركماني الحديث في العراق دراسة في أشعار عبد اللطيف بندر أوغلو ) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة لأديبنا الفاضل الأستاذ هاني صاحب حسن، والكتاب يتضمن( 148) صفحة حيث يسلط المؤلف الضوء على قضية الشعر التركماني الحر من حيث الأساليب والاتجاهات المتعددة، وقد استهل الكتاب بتوطئة وقدم صورة عن الشعر الحديث بالأدب التركماني في العراق، ثم يعرج مؤلفنا القدير هاني صاحب حسن بإلقاء الضوء على العالم الشعري لبندر أوغلو، ويقول" يمتاز الشاعر عبد اللطيف بندر أوغلو بغزارة انتاجه الشعري قياساً إلى باقي الشعراء التركمان ، حيث أصدر الشاعر حتى الآن عشرة دواوين شعرية ...ومن الجدير بالذكر ان الشاعر أصدر كتابه الأول الموسوم (خطوط في طريق الأدب التركماني)عام 1962 في بغداد .
ومن نتاجه في الغربة قصائد عديدة في مجلة (الحياة الجديدة ) الشهيرة التي كانت تصدر في صوفيا بالإضافة إلى كتاب مسرحية (ارزو قمبر) وتمت إذاعته من القسم التركي في إذاعة صوفيا .
ويقول أديبنا الأستاذ هاني صاحب حسن ان العلم الشعري لبندر أوغلو يجمع خليطاً واسعاً من القضايا والأحداث والمفاهيم والرموز التي تعكس عمق شمولية تجربته الشعرية ، كما إنها تتسم بالرقة والشفافية ولاسيما في قصائده الموزونة المقفاة كقصيدة (قرنفل ) وقصيدة (ملحمة العراق) وغيرها من القصائد على النمط نفسه التي أبدع الشاعر فيها . ويتجلى في مجموعة قصائد "أنا تركماني عراقي " ومقطع "كركوك" وغيرها من القصائد الحس القومي لدى الشاعر إذ يعلن ارتباط التركمان المصيري بالوطن واستعدادهم الدائم للدفاع عنه والشهادة من اجله مستمداً العزم والافتخار من تراث التركمان الملىء بالبطولات الفذة، ويعرض في ملامحه البطولات التاريخية لتهيئة مناخ العز والمجد كما في قصائده {كور كور بابا } حيث يقذف خيال الشاعر صورة أخرى هي تلون الأفق الجميل بنار بابا كور كور يقول :
في كركوك
نار بابا كور كور تتلظى
وهذا القلب
في بستان "كاورباغي"
العائد لشاب تركماني
يطعن بالخناجر
واليه يصوب الرصاص
فلا عجب
ان غيرت أوراق الزيتون
ألوانها الخضر
وتخضبت بالدم
واحمر الأفق
من لهيب بابا كور كور
يستخدم بندر أوغلو في ملحمته الشعرية " بابا كور كور "رموزاً تأريخية ( أوغوز، مورتضى علي، سلطان ساقي، كرم،كاورباغي) ويدخل الانثروبولوجيا التركمانية فيها ليمنح للخصوصية التركمانية في شعره بعدا نضالياً وطنياً من أبيات الملحمة :
كل الطيور سجينة
وهل ثمة من يرحم
والكون يلفه الضباب
فمن يراه يا ترى ؟
وليت شعري بأي وجه لا يدام الحق
وهل هذا وضع العالم
منذ القدم
حيث يكون الظالم يكون الظلم يا كور كور بابا
ويضيف المؤلف الأستاذ هاني في تصوير مشاعر بندر أوغلو القومية حيث يجسد هذا الاتجاه بشكل صريح في قصيدة "أنا تركماني عراقي " حيث يمزج اعتزازه اللامحدود بكيانه القومي مع اعتزازه اللانهائي بوطنه العراق ، بعض مقاطع القصيدة:
اتسال عن اسمي
انا تركماني عراقي
التمعت تراسنا وسيوفنا عبر العصور
وانثالت دماؤنا الزكية
(نسيمي)جاهد للحق
وكان الحق مسعاه
(فضولي) شاعرنا العظيم
قارع الظلم ولم يصمت
أتسأل عن اسمي ؟
.. دعك من إحراق قلبي المتعب
ويكفيك فيه التحري
فانا ابن العراق
ولأجل العراق ارقنا الدماء
...أتسأل عن اسمي ؟
أنا ابن (طور طور بابا)
انا تلك المجة ذات العروق من نهر آق صو
العابر من طوز
كما يعرج مؤلفنا الى عالم آخر لبندر أوغلو وهو معانات الشاعر وانهماكه بالحب والغرام والشقاء من جراء غرامه مشفوعاً بتعابير منها " أتاه الحب قبل الأوان " و "حسرة" القلب العليل "خاطرة"حيث يحاول الشاعر إيجاد تبرير لتعاسته التي تثير الحزن كما يبدي تذمراً ويعلن نفاذ صبره ويقول :
مدي يديك نتصافح
فجسدي المتعب
يكاد لأجلك ان ينهار
كفي عن الاعتذار
فقلبي الجريح
أتاه الحب قبل الأوان
ومن قصيدته " جميلة العينين "يقول :

لولا أنت
يا جميلة العينين
لن تعصف الرياح
ولن تتزين الفصول
ولن تكون للأعياد نهاية
فلوحك الرحمة يا بندر أوغلو، أيها الأديب الأصيل، وبرحيلك تركت فراغاً كبيراَ في الأدب التركماني، وتركت لنا أوجاعاً لا تنتهي ...

محمود سكران

قصة قصيرة
اسماعيل ابراهيم

كان طفلا صغيرا لا حول له ولا قوة، كان الأب يمسك بكلتا يديه ضفيرتي الأم ويلوي عنقها ، يسحبها إلى فناء المنزل ويمرغها بالتراب غير عابئ بصراخها ولا بصراخ طفله الصغير ما من احد من الجيران دخل عليهما ما من احد صرخ يوما في وجهه أو لامه على الأقل و فوق ذلك كله، كان ناس المحلة يتحدثون قائلين:( الذنب ذنبها لماذا لا تترك هذا السكير المجنون ؟ ! )
وتمر الأعوام ، تختفي الواحدة بعد الأخرى لم يكف محمود عن الشرب ، ظل على ما جُبل عليه ها هو يصرخ في وجه زوجته :
- اذهبي إلى الجحيم ، إلى إحدى أخواتك اقترضي منها دينارا و إلا ...
- بأي وجه اذهب إليهن لقد صرنا مدينين لهن بمبالغ كبيرة يا محمود متى ستعود إلى رشدك كف عن الشرب أرجوك لقد بعنا كل شيء من أجلك فكر بابنك ، لقد كبر. هو بحاجة إلى مصاريف المدرسة ...ما أن يسمع ذلك منها يجن جنونه يدور في مكانه محطما كل ما حوله. ثم يقذفها بكل ما في متناول يديه ويخرج من المنزل بعد أن يخرج محمود من المنزل ، تنهض ككل مرة لقد اعتادت على ضربه وإيذاءه لها. تغسل وجهها ثم تتوجه إلى المرآة التي أفسدتها الرطوبة تداوي جروح وجهها ثم تأخذ ولدها الذي يمسي بجانبها كحمل صغير تأخذه إلى أحضانها وتقبله بحنان وتحدثه مهدئة روعه : ( لا تبك يا ولدي إن أباك رجل طيب رغم ما نجد فيه من قسوة أما أصدقاؤه فسيئون للغاية ) كانت تقول ذلك وهي تبكي وتحاول أن تمنعه من البكاء.
بعد منتصف كل ليلة يطرق عليها الباب فتقفز من فراشها كالمجنونة ، لتفتح له الباب وويل لها أن هي أبطأت لذلك لا تغمض لها عين إلى أن يأتي بعد منتصف الليل ، بعد أن يرهقها الانتظار يدق الباب فتهرع إليه ما أن تفتح الباب يسقط عليها تترنح تحت ثقل جسده بعد أن تتماسك تدخل ذراعيها تحت إبطيه وتسحبه برفق إلى داخل المنزل كالعادة، في كل ليلة تكون قد جهزت له ملابس نظيفة بعد أن تخلع حذائه وتبدل ملابسه ، تغطيه وتنتظر إلى أن تسمع شخيره عندها تنهض لترمي خارج الغرفة بنطاله الذي بال عليه وتندس في فراشها حتى تلك الساعات القليلة ، بين نومه واستيقاظه باكرا لا تجد فيها الراحة فهي تتقلب على فراش من الجمر والقلق فكثيرا ما يستيقظ بين وقت وآخر صارخا بها ، طالبا شيئا ما وقد يصرخ ويسب من غير سبب.
الأعوام تحترق، تبتعد كالدخان وهي تتجرع المر تلو المر انه يعمل الآن أسبوعا في كل شهر في أحسن الأحوال اضطرت الزوجة لدفع ديون زوجها على بيع الخيوط والإبر وما شابه ، لنساء المحلة وأنواع من الحلويات لأطفالهن كانت تبيع ذلك في سرية تامة خوف أن يعلم زوجها بذلك إن علم فسوف يستولي على تلك النقود وإن كانت قليلة.
كانت الساعة حوالي السابعة والنصف صباحا (لقد تأخرت) قالها احمد في نفسه وهو يحمل كتبه ويبحث عن ساعته بحث في كل مكان ولم يجدها أسرع إلى أمه مستفسرا :
- أين ساعتي يا أمي ؟ إنني لم أجدها لقد وضعتها عند راسي ، بجانب وسادتي قبل أن أنام قاطعته الأم قائلة وبانكسار :
- لا تتعب نفسك يا ولدي لقد شربها
ضرب احمد بقدمه الأرض وقال :
- اف ، لقد شاب شعر رأسه يا أمي فمتى يكف عن الشرب متى يا أمي ، متى ؟
قبل عدة أيام ، سرق المعطف الذي تصدقت به على أمه إحدى القريبات باعه في سوق الهرج وشرب بثمنه ها هو اليوم يسرق ساعة ابنه الوحيد ليشرب أيضاً تحرك احمد إلى خارج الغرفة فنادت عليه بصوت غلبه الحزن:
- إلى أين يا ولدي ، كل لقمة ، لقمة واحدة لا يجوز أن تذهب إلى المدرسة وأنت جائع
لم يجبها اكتفى بهزة نفي من رأسه ، وخرج مسرعا.
لقد اعتاد ان يطرق عليها الباب بعد منتصف كل ليلة منذ سنين أما هذه الليلة فلم يسمعا أي طرق بدأت الجوامع تكبر ، ثم أذن المؤذنون كانت الأم في قلق بالغ ، تضرب يدا بيد ، وتحدث نفسها ( يا إلهي ، ما الذي أبطأه ، ما الذي حدث ، أين هو الآن ؟ ) وتظل تدور في المنزل تجلس لحظة ثم تعاود الدوران في قلق ( لا تقلقي يا أمي ، ربما بات عند واحد من أصدقائه ) لا يا ولدي ، لم يفعل ذلك أبدا) فجأة سمع دقات على الباب ، دقات عنيفة متواصلة ( انه هو بلا شك) وثبت من مكانها. ارتطمت بباب الغرفة وكادت تسقط من سرعتها واستعجالها تبعها احمد والنوم يغالبه ما ان فتحت الباب ، صرخت لقد عرفت في الحال ما حدث. كان محمولاً من قبل رجلين
لم يسبق أن شاهدتهما ادخلاه المنزل ووضعاه على فراشه وقبل أن ينسحبا التفت احد الرجلين إلى احمد و سأله :
- أبوك أليس كذلك ؟
- نعم ، انه أبي
- وجدناه على مسافة بعيدة من منزلكم
- وكيف عرفتم انه يسكن هذه الدار ؟ !
- ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة مشفقة وقال :
- ومن لا يعرف محمود سكران ، من لا يعرفه يا ولدي صمت احمد وهو يشيح وجهه بخجل بعد أن مضى الرجلان هرع نحو أمه كانت ما تزال تتحسس الجسد المسجى المرة تلو المرة على أمل أن تجد فيه بقية رمق ولكن عبثا فالجسد بارد كالثلج عندما أيقنت من موته ، سقطت عليه ، لتذرف دموعا غزيرة لم يسبق أن ذرفت مثل تلك الدموع وانهار احمد بجانبها ليذرف هو الآخر دموعا سخية :
- ( سامحك الله يا أبي ، سامحك الله ..)

شعر : تحسين ياسين

إلى
التي كلما مارست
قصائدها ازداد رشاقةً


أهب ..
يدي للمطر ..
لتخضِّر َ أصابعي ...
بخاصرة امرأةٍ ..
بعثر الغزاة حروفها
أكور ( نونها) الباقية
لأعيد الألق
لصباحاتها ..
لقمرها ..
الغائب في ضمير الليل
أوقد فمي ..
لأقرأ ..
لفراشاتها
قصائدي .

ومضة شعر

أرم بالقبلة
للصحراء
لتعلمها كيف
تنحني
للورد ..

أحـلام

· بين الجنة والنار
دار بينهما نقاش حاد تشوبه لهجة هي أقرب إلى الشجار من أي شيء آخر ، فقال الأول للثاني :
- أبأفعالك المشينة هذه وارتكابك المعاصي تريد أن تدخل الجنة ؟ .. نجوم السماء أقرب إليك منها !
أطرق الثاني رأسه برهة ثم قال بلهجة لا تخلو من السخرية والإزدراء :
- أما أنت فلعلك لا تدري أن جهنم أقرب إليك من حبل الوريد !!
· معادلة
أجابت :
- أنا ....
عندما سألها أنتِ أنا فمن أنا ؟!
· الجمال
قال لها :
- سيدتي عمَّ تبحثين ؟
قالت :
- أبحث عن الجمال .
- لكن الجمال هو الذي يبحث عنك لأنك أنت الجمال ! ..
قالت :
- كيف تنظر إلى الحب ؟
أجابها :
أنا لا أنظر إلا إليك !!
· إياك أن تهدني أذنك
وهما يحتسيان القهوة حول مائدة مستديرة في ركن هاديء في أحدى الكافيتريات قال لها :
- أتدرين لحديثك جاذبية ساحرة وأن صوتك أرق وأعذب من شدو البلابل ، إنه ينقلني إلى عالم رومانسي حالم ، ويخترقني مستقراً في قلبي بلا استئذان فأنا معجب به لحد الجنون .
- وأنا في الحقيقة معجبة بأذنك
فهي موسيقية وتلتقط نبرات صوتي
بالصورة التي وضعتها ولكن ...
إياك أن تفعل بها
كما فعل (فان كوخ) بأذنه !!!

· قراءة و قراءة
قالت :
- هاك يدي واقرأ كفي .
- لا أجيدها ولا أؤمن بها .
- وماذا تجيد ؟
- أجيد قراءة سطور قلبك
- وكيف ؟
- أقرؤها من خلال عينيك الساحرتين !

· داء النسيان
- هل صحيح أنك مصاب بداء النسيان ؟
- أجل ..
- وهل نسيتني ؟
لحسن حظك
نسيت أن أنساك !!
· وجهة نظر
قلت لها :
- شفتاك لهيب نار فمن ذا يطفئها ؟
- أنت ..
- بل أزيدها ناراً على نار !!
· مطر العيون
قال لها :
- لو سألوك عن سر لون عينيك فقولي لهم إنهما استمدا لونهما من فيض المطر الذي هطل من جرح قلب حبيبي ! ...
· تراتيل في محراب عينيك
- الآن وقد التقينا أطلب إليك أن تحدّقي في عيني يا حبيبتي ، إني سئمت ضوء القناديل ..
- سأحدق وأحدق يا حبيبي
إلى أن تبتل بدموع اللقاء
مناديلي ..
- كم رائعة أنت
في مشاعرك
وأنا أتعبد في محراب عينيك
مرتلاً تراتيلي ! ...
· مع هوميروس
تقابلنا فجأة ، كان شيخاً ضريراً في عينيه جحوظ ظاهر، وفي هيئته ما يدل على أنه من عصر ليس عصرنا فوقفت أمامه مذهولاً وسألته بجرأة هي أقرب إلى الفضول :
- هل لي أن أعرف من تكون أيها الشيخ الجليل ؟
رفع رأسه إلى الأعلى وقال بشيء من السخرية :
- إنك لن تعرفني فلا تجهد نفسك يا ولدي ! ولكني أكتفي أن أقول لك إن اسمي هو (هوميروس) ..
تملكني شعور غريب هو مزيج من الدهشة والغبطة فبادرته بسرعة وعفوية :
- أظنك منشد الإلياذة والأوديسة الشاعر العظيم هوميروس؟ ولكني لا أكاد أصدق نفسي ، فأنا أعلم إنك تواريت عن عالمنا إلى العالم الآخر منذ قرون سحيقة فهلا نورتني عن حقيقة أمرك يا سيدي ؟!
- أنت واهم يا ولدي !! فأنا كنت شاعراً في الأيام والقرون الخوالي ولكني الآن أمي مثلكم كما أنتم الآن مثلي أموات !!!

العلامة الملا أحمد الكوراني

كتابة : صباح البازركان
هو أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني العلامة شهاب الدين الشافعي ثم الحنفي عالم بلاد الترك . مفسر كردي الأصل من أهل شهرزور ولد بقرية من كوران سنة 813 هـ وحفظ القرآن وتلي السبع على القزويني البغدادي وقرأ عليه الكشاف وحاشيته للتفتازاني وأخذ عنه النحو مع علمي المعاني والبيان والعروض وكذا اشتغل على غيره في العلوم وتميز في الأصلين والمنطق وغيرها ومهر في النحو والمعاني والبيان وغير ذلك من العقليات وشارك في الفقه ثم تحول إلى حصن كيفا فأخذ عن الجلال الحلواني في العربية وجال في بغداد وديار بكر وقدم دمشق في حدود الثلاثين فلازم العلاء البخاري ثم قدم القاهرة في حدود سنة خمس وثلاثين وهو فقير جداً فأخذت عن أبن حجر في البخاري وشرح الألفية للعراقي ولازمه غيره وسمع صحيح مسلم عن أبن الزركشي ولازم الشيرواني كثيراً وقرأ عليه صحيح مسلم والشاطبية وأكب على الاشتغال والأشغال بحيث قرأ على العلاء القلقشندي في الحاوي ولازم حضور المجالس الكبار كمجلس قراءة البخاري بحضرة السلطان وغيره وأتصل بالكمال البارزي فنوه به والزيني عبد الباسط وغيرهما من المباشرين والأمراء بحيث اشتهر وناظر الأماثل وذكر بالطلاقة والبراعة والجرأة الزائدة فلما ولى الطاهر جقمق وكان يصحبه تردد إليه فأكثر وصار أحد ندمائه وخواصه فأنثالت عليه الدنيا ودأب في فنون العلم حتى فأق في المعقول والأصلين والمنطق وغير ذلك وبرع في الفقه وأشتهر بالفضيلة . ثم رحل إلى بلاد الترك صحبة المولى محمد يكان فعهد إليه السلطان مراد بن عثمان بتعلم ولي عهده محمد الفاتح وصار معلم السطان محمد الفاتح ومما أشتهر عنه أنه كان يقرع السلطان في صغيره بالعصا حينما كان يعلمه القرآن الكريم وولي القضاء في أيام الفاتح ولم يقبل الوزارة . والملا أحمد من أجلة علماء الدولة العثمانية وصادف من سلطانها مراد حظوة ثم لما مات الشيخ شمس الدين الفناري مسألة السلطان أبن عثمان أن يتحنف ويأخذ وظائفه ففعل وصار المشار إليه في المملكة العثمانية وتوفي بالقسطنطينية عام 893 للهجرة وصلى عليه السلطان بايزيد . وألف للسلطان محمد بن مراد بن عثمان قصيدة في علم العروض ستمائة بيت سماها الشافية في علم العروض والقافية وأول منظومته الشافية :-
بمحمد إله الخلق ذي الطول والبر
بدأت بنظم طيّه عبق البشر
(( جاء في طبقات الحنفية أن المولى محمد أدمغان الشهير بالمولى يكان لما دخل القاهرة في سفر الحجاز لقيه الكوراني فأخذه معه إلى بلاد الروم فلما لقي السلطان مراد خان قال له : هل أتيت إلينا بهدية قال نعم معي رجل فاضل عامل كامل فقيه مفسر محدث بارع في العلوم . قال أين هو ؟ قال بالباب فأرسل إليه السلطان فدخل عليه وسلم وتحدّث نعه ساعة فرأى فضله في النهاية وأعطاه مدرسة جده مراد خان الغازي بمدرسة بروسا ثم جعله معلماً لولده محمد خان ولما جلس السلطان محمد خان على السرير أكرمه غاية الإكرام وقلده منصب الفتوى وغير ذلك وصنف في أيامه تفسيراً للقرآن سماه الأماني وشرح صحيح البخاري وحواشي على شرح الجعبري للشاطبية وغير ذلك وكان يحيي الليل كله بقراءة القرآن ويختمه في كل ليلة . قولاً بالحق ذا وجاهة وفضل مات سنة 893 هـ بمدينة قسطنطينية . ))
كما أسلفنا لما خرج من مصر توجه إلى المملكة العثمانية ومازال يترقى بها حتى أستعرض قضاء العسكر وغيره وتحوّل حنفياً وعظم اختصاصه بالسلطان العثماني ومدحه وغيره بقصائد طنانة وحسنت حالة هناك بحيث لم يصير عند السلطان محمد مراد أحظى منه وأنتقل من قضاء العسكر إلى منصب الفتوى وتردد إليه الأكابر . وشرح جمع الجوامع وكثر تعقبه للمحلي وعمل تفسيراً وشرحاً على البخاري وقصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت وأنشأ باسطنبول جامعاً ومدرسة سماها دار الحديث وعمرّ الدور وأنتشر علمه فأخذ عليه الأكابر وحج في سنة 861 هـ ولم يزل على جلالته حتى مات في أواخر سنة 893 هـ وصلى عليه السلطان فمن دونه . ومن مطالع قصيدة في مدح سلطانه : -
هو الشمس إلا أنه الليث باسلاً
هو البحر إلا أنه مالك البر
وقد ترجمة صاحب الشقائق النعمانية ترجمة حافلة وذكر فيها أن سلطان الروم السلطان محمد عرض عليه الوزان فلم يقبلها وأنه أتاه مرة مرسوم من السلطان فيه مخالفة للوجه الشرعي فمزقه وإنه كان يخاطب السلطان باسمه ولا ينحني له ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة وأنه كان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه وكان يقول له مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط وذكر له مناقب جمة تدل على أنه من العلماء العاملين .
وللملا أحمد الكوراني ( الجوراني ) كتب ومصنفات كثيرة منها 1- غاية الأماني في تفسير السبع المثاني وهو كتاب في تفسير القرآن الكريم 2- الكوثر الجاري في رياض البخاري وهو كتاب لطيف أجاد فيه شرح أحاديث البخاري في عدة مجلدات 3- الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع وهو كتاب للسبكي في الأصول 4- شرح الكافية لأبن الحاجب في النحو 5- الشافية في علم العروض والقافية وقد أهدى كتابه الشعري هذا المتضمن ستمائة بيت للسلطان محمد الفاتح 6- حواشي على شرح الجعبري للشاطبية 7- فرائد الدرر في شرح لوامع المنكر ذا غلظة على الملوك ونصيحة لهم توفي عام 892 هـ / 1488 م رحمه الله تعالى وكانت ولادته في عام 813 هـ / 1410 م .

المصادر والمراجع
1- نظم العقبات في أعيان للإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المطبعة السورية الأمريكية نيويورك 1927 .
2- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للقاضي العلامة شيخ الإسلام محمد علي الشوكاني مط السعادة مصر 1348 هـ .
3- دائرة معارف القرن العشرين – الرابع عشر تأليف محمد فريد وجدي ط2 القاهرة 1924 .
4- الأعلام – خير الدين الزركلي ط3 بيروت 1969 – 1970 .
5- ما أسداه الأكراد إلى المكتبة العربية – مصطفى نريمان – بغداد – مطبعة حسام 1983 .
6- المنجد في الاعلام – بيروت دار المشرق 1988 .
7- معجم الدولة العثمانية – د. حسين نجيب المصري – القاهرة الدار الثقافية للنشر 2004 ط1 .