2008/07/07

محمود سكران

قصة قصيرة
اسماعيل ابراهيم

كان طفلا صغيرا لا حول له ولا قوة، كان الأب يمسك بكلتا يديه ضفيرتي الأم ويلوي عنقها ، يسحبها إلى فناء المنزل ويمرغها بالتراب غير عابئ بصراخها ولا بصراخ طفله الصغير ما من احد من الجيران دخل عليهما ما من احد صرخ يوما في وجهه أو لامه على الأقل و فوق ذلك كله، كان ناس المحلة يتحدثون قائلين:( الذنب ذنبها لماذا لا تترك هذا السكير المجنون ؟ ! )
وتمر الأعوام ، تختفي الواحدة بعد الأخرى لم يكف محمود عن الشرب ، ظل على ما جُبل عليه ها هو يصرخ في وجه زوجته :
- اذهبي إلى الجحيم ، إلى إحدى أخواتك اقترضي منها دينارا و إلا ...
- بأي وجه اذهب إليهن لقد صرنا مدينين لهن بمبالغ كبيرة يا محمود متى ستعود إلى رشدك كف عن الشرب أرجوك لقد بعنا كل شيء من أجلك فكر بابنك ، لقد كبر. هو بحاجة إلى مصاريف المدرسة ...ما أن يسمع ذلك منها يجن جنونه يدور في مكانه محطما كل ما حوله. ثم يقذفها بكل ما في متناول يديه ويخرج من المنزل بعد أن يخرج محمود من المنزل ، تنهض ككل مرة لقد اعتادت على ضربه وإيذاءه لها. تغسل وجهها ثم تتوجه إلى المرآة التي أفسدتها الرطوبة تداوي جروح وجهها ثم تأخذ ولدها الذي يمسي بجانبها كحمل صغير تأخذه إلى أحضانها وتقبله بحنان وتحدثه مهدئة روعه : ( لا تبك يا ولدي إن أباك رجل طيب رغم ما نجد فيه من قسوة أما أصدقاؤه فسيئون للغاية ) كانت تقول ذلك وهي تبكي وتحاول أن تمنعه من البكاء.
بعد منتصف كل ليلة يطرق عليها الباب فتقفز من فراشها كالمجنونة ، لتفتح له الباب وويل لها أن هي أبطأت لذلك لا تغمض لها عين إلى أن يأتي بعد منتصف الليل ، بعد أن يرهقها الانتظار يدق الباب فتهرع إليه ما أن تفتح الباب يسقط عليها تترنح تحت ثقل جسده بعد أن تتماسك تدخل ذراعيها تحت إبطيه وتسحبه برفق إلى داخل المنزل كالعادة، في كل ليلة تكون قد جهزت له ملابس نظيفة بعد أن تخلع حذائه وتبدل ملابسه ، تغطيه وتنتظر إلى أن تسمع شخيره عندها تنهض لترمي خارج الغرفة بنطاله الذي بال عليه وتندس في فراشها حتى تلك الساعات القليلة ، بين نومه واستيقاظه باكرا لا تجد فيها الراحة فهي تتقلب على فراش من الجمر والقلق فكثيرا ما يستيقظ بين وقت وآخر صارخا بها ، طالبا شيئا ما وقد يصرخ ويسب من غير سبب.
الأعوام تحترق، تبتعد كالدخان وهي تتجرع المر تلو المر انه يعمل الآن أسبوعا في كل شهر في أحسن الأحوال اضطرت الزوجة لدفع ديون زوجها على بيع الخيوط والإبر وما شابه ، لنساء المحلة وأنواع من الحلويات لأطفالهن كانت تبيع ذلك في سرية تامة خوف أن يعلم زوجها بذلك إن علم فسوف يستولي على تلك النقود وإن كانت قليلة.
كانت الساعة حوالي السابعة والنصف صباحا (لقد تأخرت) قالها احمد في نفسه وهو يحمل كتبه ويبحث عن ساعته بحث في كل مكان ولم يجدها أسرع إلى أمه مستفسرا :
- أين ساعتي يا أمي ؟ إنني لم أجدها لقد وضعتها عند راسي ، بجانب وسادتي قبل أن أنام قاطعته الأم قائلة وبانكسار :
- لا تتعب نفسك يا ولدي لقد شربها
ضرب احمد بقدمه الأرض وقال :
- اف ، لقد شاب شعر رأسه يا أمي فمتى يكف عن الشرب متى يا أمي ، متى ؟
قبل عدة أيام ، سرق المعطف الذي تصدقت به على أمه إحدى القريبات باعه في سوق الهرج وشرب بثمنه ها هو اليوم يسرق ساعة ابنه الوحيد ليشرب أيضاً تحرك احمد إلى خارج الغرفة فنادت عليه بصوت غلبه الحزن:
- إلى أين يا ولدي ، كل لقمة ، لقمة واحدة لا يجوز أن تذهب إلى المدرسة وأنت جائع
لم يجبها اكتفى بهزة نفي من رأسه ، وخرج مسرعا.
لقد اعتاد ان يطرق عليها الباب بعد منتصف كل ليلة منذ سنين أما هذه الليلة فلم يسمعا أي طرق بدأت الجوامع تكبر ، ثم أذن المؤذنون كانت الأم في قلق بالغ ، تضرب يدا بيد ، وتحدث نفسها ( يا إلهي ، ما الذي أبطأه ، ما الذي حدث ، أين هو الآن ؟ ) وتظل تدور في المنزل تجلس لحظة ثم تعاود الدوران في قلق ( لا تقلقي يا أمي ، ربما بات عند واحد من أصدقائه ) لا يا ولدي ، لم يفعل ذلك أبدا) فجأة سمع دقات على الباب ، دقات عنيفة متواصلة ( انه هو بلا شك) وثبت من مكانها. ارتطمت بباب الغرفة وكادت تسقط من سرعتها واستعجالها تبعها احمد والنوم يغالبه ما ان فتحت الباب ، صرخت لقد عرفت في الحال ما حدث. كان محمولاً من قبل رجلين
لم يسبق أن شاهدتهما ادخلاه المنزل ووضعاه على فراشه وقبل أن ينسحبا التفت احد الرجلين إلى احمد و سأله :
- أبوك أليس كذلك ؟
- نعم ، انه أبي
- وجدناه على مسافة بعيدة من منزلكم
- وكيف عرفتم انه يسكن هذه الدار ؟ !
- ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة مشفقة وقال :
- ومن لا يعرف محمود سكران ، من لا يعرفه يا ولدي صمت احمد وهو يشيح وجهه بخجل بعد أن مضى الرجلان هرع نحو أمه كانت ما تزال تتحسس الجسد المسجى المرة تلو المرة على أمل أن تجد فيه بقية رمق ولكن عبثا فالجسد بارد كالثلج عندما أيقنت من موته ، سقطت عليه ، لتذرف دموعا غزيرة لم يسبق أن ذرفت مثل تلك الدموع وانهار احمد بجانبها ليذرف هو الآخر دموعا سخية :
- ( سامحك الله يا أبي ، سامحك الله ..)

ليست هناك تعليقات: