(مرثية )
لقد وضع موته المفاجئ حداً لعذابه الأبدي ... قال من سجّى جثمانه و مضى مخلفاً ورائه روائح لم يألـفها دمي سابقاً .. مضى بعد أن تركني وحيداً أمام قبـره أتذكر من أجل الذكرى فقط ، جسده الذي كان يمور بالكثير .. أيعقل أن تكون النهاية هكذا؟ نعيم (*) يتوارى في قبر! قلتها وكفـّاي تمسدان التراب الذي هاله الأصدقاء على رفاته، قلتها و عيناي يترقرق فيهما الدمع و ينـزل ساخناً ليلتمع وحل ثراه ببريق أخاذ .. تسآءلت في سري المضطرب من هول المصاب و قلت : سيأتـي الجواب حتماً مـن الأغوار و ستكف أفكاري عن الهراء .. انتظرت إلى أن غابت شمس القبور و اكتسى الأفق بلون حائل أحاله الغروب لشاهدٍ مخضب بلون الدم .. سكنت الأشياء من حولي و أخذ الظلام يدب بدفقات تمحي بالتدريج ملامـح شواهد القبور الشاهقة و تحيلها إلى تماثيل مروّعة .. غلفتني العتمة بالخوف و ما انفك قلبي و القبر يتنازعان على الجواب العسير. أقلقتني الوحشة المهيمنة على المكان ودفعتني للهذاء فوجدتني أهذي هكذا : أيها النعيم القديم اليوم لملم أشلاءك الأصدقاء و سلموها هدية للثرى ، اليوم و بلطف سجّى الصحب قصيدتك الأخيرة في قلبي و مضوا ، يا من حوطتني بأسراب الأوجاع و حلقت بعيداً مجرجراً معك إلى الأقاصي كلماتي ، يا من مزقتني برياح الرحيل و سربلتني بسموم الفقد و قلت اكتب القصيدة .. لماذا و قد عشش اليأس زاحفاً بجحافله القاسية نحو الذاكرة المحتضرة ؟ لماذا و كلما أمتدت الكف للقلم قطعتّها آلاف الهواجس المريرة ؟ دلني أيها الساخر من موتك على الطريق، هيئ لي في قبرك فسحة للتحليق ، دعني أشاطرك الوحشة و ألقمني حجر الحزن لأهذي هكذا ..
أنني ميت ، ميت .. قال صوت انبثق بغتة من ثراه الرطب .. صوت جعلني أرتعد من الرعب و أرتد فزعاً إلى الوراء . مادت الأرض تحت قدميّ المرتعشتين و اعتدل من التراب اللزج للقبر شبح بهيئة آدمية ، لم تكن الهيئة آنذاك له، كانـت لآخر يشبههُ تماماً، ظهر لهنيهات و غاب مخلفاً ورائه أصواتاً هامسة ، ميزت رغم اكتظاظها صوته الخفيض ، أجل كان صوته يأمرني و يقول :
- سأفتح لك درب المجهول لتمض إليّ حيث الخوف هناك يتربع على عرش قلبي الهزيل ، حيث العتمة تفرد من هول الهول جناحيها القاسيتان لتطبق على جسدي العليل ، سأسمح لأنامل لوعتك الشديدة أن تمس جلدي الملوحّ بالعذاب ..
سرت كلماته الهامسة في قلبي حتى راحت كلماتي تنـز كالدم من قلبي قائلة : نم يا صديق العصافير آمناً في عشك الحجري ، في جسدك الرقيق يجري البحر بمركب الذكريات فلا تخشى الطوفان ، نم يا شهيق الصحب فعلى هامتك يرسم الود أكليل النور الذي لا يخشى الظلام ، يا منشد الورد الوحيد، عما قريب سيشق الأريج طريقه الملون صوبك ، فأيقظ له كل قصائدك الغافية ، اسأله غنائها و ستراه يرددها نشواناً ، سنسمعها في حقول الشعراء تصدح بها عالياً حناجر البلابل الساحرة ، ستلطخ خضرة الأشجار بترانيم آسية يطفو نشيجها فتشربه الغدران العطشى ، تشربه و يعكر صفوها الرائق النشيج المر و ترتسم في لججها المضطربة ملامح النهاية القاسية . أدركها و ادرك ما سيأتي من خراب، أفر بكلمات قصيدتي بعد أن خلفتني إزاء وحشتي أطالع النهايات في الليل منفرداً ، لا أنيس لي في متاهتي سوى ظلام يكفّن جسدي بالسواد و قبر يكفّن جسدك بالبياض ، أقول له قم يا صديق التسكع إنها رقدتك الأولى ، انتفض منها و تساوق عالياً مع النداء الحزين .
شق الوجع الشديد طريقه إلى فضاء الحلم و اتجهت أحزاني صوب التراب ، كانت تنفذ بقوة مني للظلام الساكن، تربكه فيمور بمخاض يتجلي ليّ فيه طيفاً يشبهه ، يتجه نحوي و يطالعني بهيئته التي اعرفها جيداً، يزلزلني حضوره المباغت فأرتعد من الرعب، تمتد كفاه الرحيمتان لرأسي و تطمئن لمستها الحنونة جسدي المختض من الخوف و يقول :
- لمَ الحزن ؟ لقد استحلت إلى قصيدة مشتعلة أضاءت عتمة مكاني الأبدي ، لا تحزن لقد فتحت ليّ البهجة هناك أزرار قميصها الوردي ، دعتني للدخول فيها فدخلت . ولجتها يا صاحبي فبزغت من أغوارها المنارة بالحنين الأقمار الفضية، ارتعشت فقادتني محمولاً عليها نحو شمس مسّني دفؤها فاحترقت، احترقت و تساميت حتى دخلت غيمة الشعر ، في أثيرها الساحر حلقت يسورني أحبابي الموتى ، يغسلون الأوجاع بالدمع و يميطون عن قلبي لثـام الحسرة لأفرح ، أفرح و أستل ما تراكم من حزن غالبني في حياتي الماضية .
أصغيت له و دنوت حتى اخترقني قبس من ضياء روحه الطاهرة ،رأيته متجسداً أمامي بكل وضوح على فسحة التراب التي انفتحت تماماً ، كنت أسمعه يترنم بأغنية العودة ، يسألني فيما لو كنت أسمعه أو أراه ، كنت أسمعه يتلاطف مع ما تهشم منه و يتوعد الجسد الهزيل بالرجوع ، أسمع روحه الحائرة ترنو لي بانكسار،أطمئنها فتهدأ و تغزوها بهجة السرور، ترتعش الأشياء من حولنا و يسري حمى الفرح في كل شئ، في أوج ذلك الاحتفال يرى أرواح الشعراء الموتى يتقدمهم جعفر(**) .. جعفر الذي يحتفي بحضوره المهيب ، ينبهر لمرآه و يرمقني بنظرات مرتابة فأقول له مطمئناً ، لا تخف انه يدعو الموتى لينهمكوا في معالجة جروحك الخائرة ، سيسألك عن الصحب و عن الأهل فأجب ، تهمي من عينيه الصغيرتين دمعتين تلسعان جرحه فيتأوه من الألم ، يحتضنه الصديق القديم بقوة فتهدأ جروحه المزمنة ، يسأله عن سر وجوده الغريب بينهم ، يسكت فيفضحه رجع وجعٍ ينبثق من داخله الموجوع ،يناله الأسى المر فينتبه لما حوله من يباب، يقرأ في الشحوب المهيمن على الجميع وجه الموت ، و يدرك أنه ميت و إنهم ميتون .
يرتعب في الحال من الحال الذي آلت إليه حياته الفقيرة ،ينكفئ على وجهه من الفزع ، يهوي ويرفع بدنه الرقيق جعفر، يستقيم و يبهره سطوع البياض الذي تتسربل به روحـه الشفافة ، تصفع وجهه ابتسامة بيضاء يطلقها الصديق ، يخاله يسخر منه ،فينزعج ويبكي ثم يضحك و يضحك حتى تتنـاهـى القهقهات للموتى ،يصطفون للضحك و يضحكون حتى يبكون من الضحك ، تصدح حنجرته المثقلة بالشعر و تأمرهم بالإذعان و الكف عن البكاء ، يصغون لصوته و هو يستبدل الدموع بالقصائد ، ينصتون لرجع الأوجاع المريرة ويكفّنون بها ما تبقى من أحلامهم النحيفة ، يضحكون من البكاء الشديد و يصفقون له بأكف الشوق فيسيل الحنين الذي لا يحتمله قلبه العليل ، يسيل الحنين و يلعقه قلبي أيضاً ، قلبي الذي يقاسمه العتمة و يشعل بدلاً من روحه روح الشعر، تحاصرنا فجأة روائح الفناء العطنة القادمة من اللامكان فيـسورها الشاعر بأزهـار القصائد لتعبق في لحظة المحنة روائح القصيدة الزكية .. أتشممها و أسكر من الوجد و يستحيل مـوته المؤلم إلى حياة باهـرة ،في مخاضها العسير أرى روحه تنبثق من سجن الجسد المتين لتدخل في حقل السحاب الفسيح ، تسمو محلقة في أعالي السديم، تطالع من هناك بدنه الذي سجّوه في القبر و انصرفوا ، يتأمله معي بغرابة و يقول :
- انه جسدي ..
اجل .. انه جسدك الذي من أجله الآن تهبط محققاً حلم الرجوع الأخير ، ستصله عما قريب و سيأذن لك حارس الموتى بالدخول ، ستدخل و على سرير الحجر تنام غير مكترث بشئ ، تحلم بالفجر الذي لملمك مرة ومضى ، في غبشه القرمزي تفتش عن سنوات عمرك الزاهية، بأيامها تطالع هوس النهارات الجميلة، يركض حذاء ما انصرم من لياليك الأجمل ، لحقولها الخضراء ترنو فتأخذك حمية الورد هناك حيث الحياة تدعوك لتتقدم اليها ،تتقدم و يشتد وجيب القلب الذي كان يقلقك فيما مضى وتنبض الحياة فجأة في قلبك ، تضج بضجيج العمر حينما تتسلل خلسة من دمك الروح إلى خيوط الكفن الصفراء ، تتشرب بها الأنسجة الميتة و تستحيل إلى ريش يغلف جسدك بالأجنحة .. تخال رفاتك و قد صيّرها الحال إلى طير أبيض ، تصفق بجناحيه بقوة و تحاول التحليق فيرتطم رأسك الصغير بسقف اللحد ، ترتد إلى الخلف و تعيد الكرة و لا تقوى ، تحضر روح الشعر المسعفة وتحرقك بمخيالها، تلتهب القصائد بقسوة و يشعل لظاها قش موتك الثقيل ، تتجمر الكلمات الشفافة و يعرّج بك دخانها الذهبي صوب الأقاصي ، تسمو تاركاً لرمسك الخواء طائراً صوب سماء تستقبل غيومها وجهتك بالندى، يطهرك العروج السماوي و يجلي عن هيئتك شحوبها الشديد ، تندهش من شدة البياض الذي يداهمك بسطوعه الوهاج .. تشرع بترتيب جراحك القانية على مصاطب الغيوم ، تغسلها فتفر الأوجاع منها متبوعة بالأنين ، تصغي لأجراس الشفاء تترنم بها أسراب العصافير التي تكلل رأسك بالسرور ، تطربك زقزقتها الغريبة فتهمس لها بالمزيد ، تزداد و يباغتها نقر وحشي تشق مناقيره الحادة حناجر العصافير ، ترى الهلع المرتسم في عيون الطيور الصغيرة و تسمع استغاثاتها مدوية في قلبك الرقيق ، تفتح لها راسك لتدخل و تدرك أن لامناص من الغياب ، تهرب العصافير المعششة فيك عالياً، و تخلفني وحيداً أمام قبر خاو لم يقو على طمر جسدٍ صار عشاً للعصافير ...
* نعيم الخباز : شاعر شعبي عراقي و لد في الناصرية و مات فيها مريضاً بالبلهارزيا بعد أن عاش الجزء الأكبر من عمره في كركوك. تتسم قصائده بالسخرية اللاذعة و التهكم الجريء و له أسلوب متميز و خاص في كتابة القصيدة العامية .* * جعفر موسى : ممثل مسرحي و قاص و شاعر ولد في كركوك و يعتبر من علاماتها المسرحية المهمة . سكن قلبه فجأة في أحد شوارع المدينة ، و مات بعد أن أثرى المسرح العراقي بأعمال كثيرة في التمثيل و الإخراج .
لقد وضع موته المفاجئ حداً لعذابه الأبدي ... قال من سجّى جثمانه و مضى مخلفاً ورائه روائح لم يألـفها دمي سابقاً .. مضى بعد أن تركني وحيداً أمام قبـره أتذكر من أجل الذكرى فقط ، جسده الذي كان يمور بالكثير .. أيعقل أن تكون النهاية هكذا؟ نعيم (*) يتوارى في قبر! قلتها وكفـّاي تمسدان التراب الذي هاله الأصدقاء على رفاته، قلتها و عيناي يترقرق فيهما الدمع و ينـزل ساخناً ليلتمع وحل ثراه ببريق أخاذ .. تسآءلت في سري المضطرب من هول المصاب و قلت : سيأتـي الجواب حتماً مـن الأغوار و ستكف أفكاري عن الهراء .. انتظرت إلى أن غابت شمس القبور و اكتسى الأفق بلون حائل أحاله الغروب لشاهدٍ مخضب بلون الدم .. سكنت الأشياء من حولي و أخذ الظلام يدب بدفقات تمحي بالتدريج ملامـح شواهد القبور الشاهقة و تحيلها إلى تماثيل مروّعة .. غلفتني العتمة بالخوف و ما انفك قلبي و القبر يتنازعان على الجواب العسير. أقلقتني الوحشة المهيمنة على المكان ودفعتني للهذاء فوجدتني أهذي هكذا : أيها النعيم القديم اليوم لملم أشلاءك الأصدقاء و سلموها هدية للثرى ، اليوم و بلطف سجّى الصحب قصيدتك الأخيرة في قلبي و مضوا ، يا من حوطتني بأسراب الأوجاع و حلقت بعيداً مجرجراً معك إلى الأقاصي كلماتي ، يا من مزقتني برياح الرحيل و سربلتني بسموم الفقد و قلت اكتب القصيدة .. لماذا و قد عشش اليأس زاحفاً بجحافله القاسية نحو الذاكرة المحتضرة ؟ لماذا و كلما أمتدت الكف للقلم قطعتّها آلاف الهواجس المريرة ؟ دلني أيها الساخر من موتك على الطريق، هيئ لي في قبرك فسحة للتحليق ، دعني أشاطرك الوحشة و ألقمني حجر الحزن لأهذي هكذا ..
أنني ميت ، ميت .. قال صوت انبثق بغتة من ثراه الرطب .. صوت جعلني أرتعد من الرعب و أرتد فزعاً إلى الوراء . مادت الأرض تحت قدميّ المرتعشتين و اعتدل من التراب اللزج للقبر شبح بهيئة آدمية ، لم تكن الهيئة آنذاك له، كانـت لآخر يشبههُ تماماً، ظهر لهنيهات و غاب مخلفاً ورائه أصواتاً هامسة ، ميزت رغم اكتظاظها صوته الخفيض ، أجل كان صوته يأمرني و يقول :
- سأفتح لك درب المجهول لتمض إليّ حيث الخوف هناك يتربع على عرش قلبي الهزيل ، حيث العتمة تفرد من هول الهول جناحيها القاسيتان لتطبق على جسدي العليل ، سأسمح لأنامل لوعتك الشديدة أن تمس جلدي الملوحّ بالعذاب ..
سرت كلماته الهامسة في قلبي حتى راحت كلماتي تنـز كالدم من قلبي قائلة : نم يا صديق العصافير آمناً في عشك الحجري ، في جسدك الرقيق يجري البحر بمركب الذكريات فلا تخشى الطوفان ، نم يا شهيق الصحب فعلى هامتك يرسم الود أكليل النور الذي لا يخشى الظلام ، يا منشد الورد الوحيد، عما قريب سيشق الأريج طريقه الملون صوبك ، فأيقظ له كل قصائدك الغافية ، اسأله غنائها و ستراه يرددها نشواناً ، سنسمعها في حقول الشعراء تصدح بها عالياً حناجر البلابل الساحرة ، ستلطخ خضرة الأشجار بترانيم آسية يطفو نشيجها فتشربه الغدران العطشى ، تشربه و يعكر صفوها الرائق النشيج المر و ترتسم في لججها المضطربة ملامح النهاية القاسية . أدركها و ادرك ما سيأتي من خراب، أفر بكلمات قصيدتي بعد أن خلفتني إزاء وحشتي أطالع النهايات في الليل منفرداً ، لا أنيس لي في متاهتي سوى ظلام يكفّن جسدي بالسواد و قبر يكفّن جسدك بالبياض ، أقول له قم يا صديق التسكع إنها رقدتك الأولى ، انتفض منها و تساوق عالياً مع النداء الحزين .
شق الوجع الشديد طريقه إلى فضاء الحلم و اتجهت أحزاني صوب التراب ، كانت تنفذ بقوة مني للظلام الساكن، تربكه فيمور بمخاض يتجلي ليّ فيه طيفاً يشبهه ، يتجه نحوي و يطالعني بهيئته التي اعرفها جيداً، يزلزلني حضوره المباغت فأرتعد من الرعب، تمتد كفاه الرحيمتان لرأسي و تطمئن لمستها الحنونة جسدي المختض من الخوف و يقول :
- لمَ الحزن ؟ لقد استحلت إلى قصيدة مشتعلة أضاءت عتمة مكاني الأبدي ، لا تحزن لقد فتحت ليّ البهجة هناك أزرار قميصها الوردي ، دعتني للدخول فيها فدخلت . ولجتها يا صاحبي فبزغت من أغوارها المنارة بالحنين الأقمار الفضية، ارتعشت فقادتني محمولاً عليها نحو شمس مسّني دفؤها فاحترقت، احترقت و تساميت حتى دخلت غيمة الشعر ، في أثيرها الساحر حلقت يسورني أحبابي الموتى ، يغسلون الأوجاع بالدمع و يميطون عن قلبي لثـام الحسرة لأفرح ، أفرح و أستل ما تراكم من حزن غالبني في حياتي الماضية .
أصغيت له و دنوت حتى اخترقني قبس من ضياء روحه الطاهرة ،رأيته متجسداً أمامي بكل وضوح على فسحة التراب التي انفتحت تماماً ، كنت أسمعه يترنم بأغنية العودة ، يسألني فيما لو كنت أسمعه أو أراه ، كنت أسمعه يتلاطف مع ما تهشم منه و يتوعد الجسد الهزيل بالرجوع ، أسمع روحه الحائرة ترنو لي بانكسار،أطمئنها فتهدأ و تغزوها بهجة السرور، ترتعش الأشياء من حولنا و يسري حمى الفرح في كل شئ، في أوج ذلك الاحتفال يرى أرواح الشعراء الموتى يتقدمهم جعفر(**) .. جعفر الذي يحتفي بحضوره المهيب ، ينبهر لمرآه و يرمقني بنظرات مرتابة فأقول له مطمئناً ، لا تخف انه يدعو الموتى لينهمكوا في معالجة جروحك الخائرة ، سيسألك عن الصحب و عن الأهل فأجب ، تهمي من عينيه الصغيرتين دمعتين تلسعان جرحه فيتأوه من الألم ، يحتضنه الصديق القديم بقوة فتهدأ جروحه المزمنة ، يسأله عن سر وجوده الغريب بينهم ، يسكت فيفضحه رجع وجعٍ ينبثق من داخله الموجوع ،يناله الأسى المر فينتبه لما حوله من يباب، يقرأ في الشحوب المهيمن على الجميع وجه الموت ، و يدرك أنه ميت و إنهم ميتون .
يرتعب في الحال من الحال الذي آلت إليه حياته الفقيرة ،ينكفئ على وجهه من الفزع ، يهوي ويرفع بدنه الرقيق جعفر، يستقيم و يبهره سطوع البياض الذي تتسربل به روحـه الشفافة ، تصفع وجهه ابتسامة بيضاء يطلقها الصديق ، يخاله يسخر منه ،فينزعج ويبكي ثم يضحك و يضحك حتى تتنـاهـى القهقهات للموتى ،يصطفون للضحك و يضحكون حتى يبكون من الضحك ، تصدح حنجرته المثقلة بالشعر و تأمرهم بالإذعان و الكف عن البكاء ، يصغون لصوته و هو يستبدل الدموع بالقصائد ، ينصتون لرجع الأوجاع المريرة ويكفّنون بها ما تبقى من أحلامهم النحيفة ، يضحكون من البكاء الشديد و يصفقون له بأكف الشوق فيسيل الحنين الذي لا يحتمله قلبه العليل ، يسيل الحنين و يلعقه قلبي أيضاً ، قلبي الذي يقاسمه العتمة و يشعل بدلاً من روحه روح الشعر، تحاصرنا فجأة روائح الفناء العطنة القادمة من اللامكان فيـسورها الشاعر بأزهـار القصائد لتعبق في لحظة المحنة روائح القصيدة الزكية .. أتشممها و أسكر من الوجد و يستحيل مـوته المؤلم إلى حياة باهـرة ،في مخاضها العسير أرى روحه تنبثق من سجن الجسد المتين لتدخل في حقل السحاب الفسيح ، تسمو محلقة في أعالي السديم، تطالع من هناك بدنه الذي سجّوه في القبر و انصرفوا ، يتأمله معي بغرابة و يقول :
- انه جسدي ..
اجل .. انه جسدك الذي من أجله الآن تهبط محققاً حلم الرجوع الأخير ، ستصله عما قريب و سيأذن لك حارس الموتى بالدخول ، ستدخل و على سرير الحجر تنام غير مكترث بشئ ، تحلم بالفجر الذي لملمك مرة ومضى ، في غبشه القرمزي تفتش عن سنوات عمرك الزاهية، بأيامها تطالع هوس النهارات الجميلة، يركض حذاء ما انصرم من لياليك الأجمل ، لحقولها الخضراء ترنو فتأخذك حمية الورد هناك حيث الحياة تدعوك لتتقدم اليها ،تتقدم و يشتد وجيب القلب الذي كان يقلقك فيما مضى وتنبض الحياة فجأة في قلبك ، تضج بضجيج العمر حينما تتسلل خلسة من دمك الروح إلى خيوط الكفن الصفراء ، تتشرب بها الأنسجة الميتة و تستحيل إلى ريش يغلف جسدك بالأجنحة .. تخال رفاتك و قد صيّرها الحال إلى طير أبيض ، تصفق بجناحيه بقوة و تحاول التحليق فيرتطم رأسك الصغير بسقف اللحد ، ترتد إلى الخلف و تعيد الكرة و لا تقوى ، تحضر روح الشعر المسعفة وتحرقك بمخيالها، تلتهب القصائد بقسوة و يشعل لظاها قش موتك الثقيل ، تتجمر الكلمات الشفافة و يعرّج بك دخانها الذهبي صوب الأقاصي ، تسمو تاركاً لرمسك الخواء طائراً صوب سماء تستقبل غيومها وجهتك بالندى، يطهرك العروج السماوي و يجلي عن هيئتك شحوبها الشديد ، تندهش من شدة البياض الذي يداهمك بسطوعه الوهاج .. تشرع بترتيب جراحك القانية على مصاطب الغيوم ، تغسلها فتفر الأوجاع منها متبوعة بالأنين ، تصغي لأجراس الشفاء تترنم بها أسراب العصافير التي تكلل رأسك بالسرور ، تطربك زقزقتها الغريبة فتهمس لها بالمزيد ، تزداد و يباغتها نقر وحشي تشق مناقيره الحادة حناجر العصافير ، ترى الهلع المرتسم في عيون الطيور الصغيرة و تسمع استغاثاتها مدوية في قلبك الرقيق ، تفتح لها راسك لتدخل و تدرك أن لامناص من الغياب ، تهرب العصافير المعششة فيك عالياً، و تخلفني وحيداً أمام قبر خاو لم يقو على طمر جسدٍ صار عشاً للعصافير ...
* نعيم الخباز : شاعر شعبي عراقي و لد في الناصرية و مات فيها مريضاً بالبلهارزيا بعد أن عاش الجزء الأكبر من عمره في كركوك. تتسم قصائده بالسخرية اللاذعة و التهكم الجريء و له أسلوب متميز و خاص في كتابة القصيدة العامية .* * جعفر موسى : ممثل مسرحي و قاص و شاعر ولد في كركوك و يعتبر من علاماتها المسرحية المهمة . سكن قلبه فجأة في أحد شوارع المدينة ، و مات بعد أن أثرى المسرح العراقي بأعمال كثيرة في التمثيل و الإخراج .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق