2008/07/07

مفاتيح فاروق مصطفى

شاعر وكاتب / كركوك
درجتُ في بيتٍ كانت الحكايات والقصص تُلقى في أركانها المتعددة فالوالدة كانت حكاءة مجتهدة لا تمل من رواية حكاياتها الملأى بالمردة والجان ، كنا نتحلق حول منقلة الفحم في ليالي الشتاء أو نستلقي على سطح الدار في ليالي الصيف الحالمة فتبدأ موسيقى مروياتها بالانطلاق ونحن معها ننطلق إلى عوالمها السحرية . وإلى جانب الوالدة كانت لنا قريبة تدعى العمة (جميلة) هي الأخرى حكاءة نادرة ، وإذا أحست أمنا أن مزاجها ليس على ما يرام أرسلت في طلب " العمة " وسرعان ما تطل علينا وإذا حكاياتها تسبقها إلى الدار ، ولم تكن حكايات عادية فهي تملك أرجلاً وأيدياً وقلوباً تنبض ورئات تتنفسُ وكانت تشدنا إليها إلى درجة نتماهى في مروياتها الخرافية ونتمنى ألاّ ينتهي قصها وأن يتجمد الزمان وتتلاشى الساعات ، أما بالنسبة إلى القص المدون فأشقائي يتبارون في رواية المدونات التي يقرؤونها ، فأنا قبل أن أعرف الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله وكتبه أصغيت إلى روايتيه : ( لقيطة ) و ( شجرة اللبلاب ) ترويان صفحة بصفحة وبكيت مع أبطالها وبطلاتها واستمعت إلى حكايات ( ألف ليلة وليلة ) فاستهوتني أجواؤها وسحرني شخوصها البسطاء وعندما كبرت بعض الشيء اكتشفت عالم القصص البوليسية عن طريق بعض أترابي إلا أن تلك القصص لم تستهوني كثيراً فتركتها إلى عالم القصص الرومانسية ، ومع كتاب ( العبرات) لمصطفى لطفي المنفلوطي انفتحت لي كوة ساحرة في القص المدون فقرأت كل مدونات الكاتب المصري الموضوعة والمنقولة ، ثمّ انتقلت إلى جرجي زيدان عملاق الرواية التاريخية وجبران خليل جبران وفي أحد الأيام قادتني قدماي إلى محرابِ المكتبة العامة فدخلتها خائفاً متوجساً كأن كل عيون الكتاب والمؤلفين ترصدني ، ولكن ما هي إلا أيام وإذا ألفة من المودة والحميمية تبدأ بيني وبينها وتستمر إلى السنين اللاحقة وفيها تعرفت على كنوز القَصص الإنساني فعرفت الكتاب الأجانب وصادقتهم وأحببتهم ولا أدري كيف مرت الأيام والأعوام وأنا أغوص في عالم الروايات ، فغدت عوالمها أكثر حقيقية من الواقعِ نفسه أليس الفن هو إعادة لخلق العالم من جديد ؟ كما يصرح بذلك "ألبير كامو" في أحدى مقولاتهِ، وتماهى عنديِ العالمان الواقعي بالفانتازي ، والمنظور باللامنظور، ومن هذه القراءات غدوتُ أبصر بعين قلبي كما يعلن ذلك الحلاج ، ولا أعلم كم من الروايات قرأت وأنا إلى الآن عندما أقرأ أو أسمع أو أتفرج في التلفاز ويتناهى إلى سَمعي اسم رواية لم أحصل عليها ينتابني الحزن ، وها أنني بلغت الستين والله أعلم كم من المدونات لم أقرأها أو لم أسمعْ بها أو سمعت بها ولكنها لم تترجم إلى العربية ولكني أقول إن أجمل الساعات عنديِ وأنا على مقعدٍ في مقهى أو مصطبة في حديقةٍ عامة أو سريري في غرفتي الفقيرة منكب على صدر رواية أجول مع شخوصها وأنزاح بانزياحاتها وكلما أحاول أن أمسكهم فإذا هم يفرون من بين أصابعي فأعدو وراءَهم وغسق العمر يمتد ويمتد ليظلّل الجسد الواهن ويستر الأصوات الهابطة من شرفات البيوت المستنيمة لأصابع الإهمال وأقدام النسيان.
وفي هذهِ الصفحات مقالات كتبتها عن مدونات قصصية قرأتها في فتراتِ مختلفة من العمر وتركت انطباعات وتداعيات داخل النفس فأردت أن أنقلها إلى عالم الورق وقد نشر معظمها في جريدة (النصر) الجزائرية وصحف ومجلات عراقية كـ (العراق) البغدادية و (الحدباء) الموصلية و ( صوت التأميم) الكركوكية وهي كتابات متواضعة ولكنها تفصح عن حبي وشغفي بجنس القصص، هذا الجنس الفني الذي غدا خطابه من أخطر الخطابات الفنية لأنه يجمع إليه الأجناس كلها إلى درجة أن العديد من الشعراء في الأيام الأخيرة بدأ يطرق بوابة الجنس الروائي لما لهذا الجنس من غواياته الماطرة إلا وهي تبهج النفس وتمغنط القلب بشغفها الآسر وتوهجاتها الحارقة .

ليست هناك تعليقات: