2008/11/14


الأندلس الهاربة

د.عبدالله إبراهيم

وصلتُ الباخرة في اللحظات الأخيرة قبل مغادرتها ميناء طنجة المغربي إلى الجزيرة الخضراء في أسبانيا، فاندهشت بأمواج البحر المتوسط تحتضن أمواج المحيط الأطلسي. موجة تعقب أخرى، فأخرى. تجولت في أنحاء السفينة كالمجنون الذي يريد اقتناص اللحظات، واستندت إلى السياج أتأمل جبال المغرب المشجرة تتوارى شيئا فشيئا إلى يميني. لاحظت أكواخا بعيدة، وسنون جبلية جرداء، وكهوفا، ثم غابات كثيفة. أثارتني المياه الداكنة، والسفينة تشقها منسابة فيتناثر الزبد يميناً وشمالاً، وتراءت لي الأندلس من بعيد ذكرى قادمة من عمق الماضي، أو رغبة خاطئة، تلك الأندلس التي توهجت للحظة، ثم سقطت في عتمة النسيان. وصلت الجزيرة في الرابعة عصرا من يوم12/7 /2001 وبعد أن انزلقت بنا الباخرة إلى ميناء يقع بين جبل طارق وطريف، رمتنا على رصيف حديدي صدئ، فانفرط عقدنا كأننا حفنة زبيب تناثر من زكيبة. مررت من نقطة الدخول متعجلا، لا أرى إلا ما أفكر فيه، ولم أعط نفسي حق اكتشاف الأشياء، فختمت جواز سفري فتاة متثائبة، وأخذت الحافلة إلى غرناطة.
لم أتمهّل لمعرفة الأرض التي وقّّع عليها العرب بخطواتهم الأولى كأنني أفرّ من حدث غامض يتأرجح بين المفخرة والعار، فلم أحسم تأويلي للحظة وصولهم إلى أرض أخرى، والبقاء فيها، لكن مروري الاستكشافي بالأندلس، ورؤيتي لرفعة الأثر، ترك معنى ايجابيا لقضية الأندلس في نفسي، وتشبّعت بالقرون الثمانية التي أقامت صرح تجربة ندر مثيلها في تاريخ العرب. وحينما وصلت كنت فرغت لتوّي من تدريس جامعي لأشعار الغزال، وابن خفاجة، وحفصة الركونية، وولادة بنت المستكفي، ونزهون الغرناطية، ومهجة القرطبية، وابن زيدون، فالأندلس تتّقد في مخيلتي ومضة جمال مبهرة. مررت بـ"ماربيا"ثم"ملقا"بموازاة الشاطئ، وانعطفت ناحية غرناطة في عمق اليابسة إلى الشمال جوار جبل عظيم. فتح المدينة طارق بن زياد في مطلع الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي، وقد استعادها الملك فرناندو في عام 1492.
حططتُ رحلي بغرناطة في الثامنة، لست غازيا، ولكنني متشوّف لمعرفة بقايا مجد غابر. واتجهت أول صباح اليوم التالي إلى"القصر الحمراء"فانتظمت في طابور طويل للحصول على تذكرة الدخول. وبدأت الدهشة تتصاعد في داخلي، وأنا في الممر المؤدّي إلى قصور شادها بُناة ضربهم الجمال في أعماقهم. اتجهت شمالا، وعبرت جسراً صغيراً، فانزلقت إلى عالم مبهر: باقة من المباني العريقة، والقصور المترابطة التي يفضي بعضها إلى بعض. تأتي الحمراء من الماضي لتجمع عشرات اللغات، والأجناس، والثقافات. وأمواج السائحين تتداخل فيما بينها، متجمّعة حول الأدلّة يشرحون كل شيء، ويستحضرون الماضي. وتتردد كلمات"العرب"و"المسلمون"في أرجاء تذكّر بأنهم كانوا هنا وذهبوا إلى غير رجعة.
يصغي الأميركيون إلى الدليل، ويبدون دهشة حينما يخبرهم إن كل ما يرون قد شيّد قبل اكتشاف بلادهم، فتتردد شهقاتهم في الأروقة المضاءة بالشمس عبر النوافذ المزججة، والعجائز منهم يشعرون بحاجة إلى التاريخ فيما يظن الشباب بأن التاريخ بدأ بهم، ولا حاجة لهم بذاكرة. وذبت بفوج أصغى، وأتعرّف، وتشرد بي الذاكرة بعيدا إلى الماضي، فأبدو نافرا كمن ينتمي ولا ينتمي إلى هذه اللحظة، ثم فارقتهم في مدخل قصر الناصر، وارتقيت سلماً لأجد نفسي على مقربة من منارة صارت كنيسة يعلوها جرس ضخم، فتأملت فيها طويلاً، وطفت بالقصر الدائري، وتفحصت المنمنات، والأروقة المفتوحة، ودهشت حينما انتقلت إلى الحدائق حيث الأشجار، والنافورات، والممرات المرصوفة بحصى تاريخية، وتصوّرت حال بني الأحمر، وفهمت بعمق المقولة التي طالما قرأتها، حينما خاطبت آخرَ ملوك بني الأحمر أمَُه" إبك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال"ففي هذا الفضاء الخلاب لا يشعر المرء بأنه يملك ثروة، إنما هو جزء من شيء نادر واستثنائي.
لا يمكن فهم الحمراء على أنها قصر، فهي مزيج من الروح الخلاقة والفن العريق، والقوة الجميلة، واللطف الشفاف. ولم أحس بأنها مكان للسلطة، فالجمال قهر كل شيء، شعرت في زيارتي للآثار الأخرى بأنها أماكن للقوة والعنف، كما وقع لي في قلعة"مون سان ميشيل" في النورماندي، وقصر"فرساي"قرب باريس، وقلعة أدنبره في أسكتلندا، وقلعة"الشقيف"في جنوب لبنان، وقلعة"الربض"في عجلون بالأردن، لكن إحساسي بالجمال في الحمراء ذهب بي إلى أنها كانت خلاصة لذوق سام تغلّب على كل شيء. عرفت الحمراء الرفعة والذل، وشهدت أمواج الدهر لقرون طويلة. في البدء بنيت قلعة حصينة للزعيم البربري ابن حبوس، اختارها على مرتفع من الأرض، ليحدّق دائما في غرناطة المرتمية في الوادي، وأحاطها بسور محكم، يحتمي به من صروف الدهر، وعلى الرغم من ذلك انتزعها بنو الأحمر، وأحالوها جنة طوال عهدهم، وحينما خرج آخرهم، أبو عبدالله الصغير، حمل معه رُفات أسلافه ليردم بئر الذكرى، فآل المكان قصرا للملك الأسباني الذي ورث المدينة، وحاز على صكّ استسلامها، فعبثتْ يد التعصب في أرجائها، كما يحدث في كل واقعة حينما يرث دين دينا آخر، فحلّت الكنائس فيها محلّ المساجد، وكشطت الزخارف العريقة، وألقيت في الوادي المجاور، ونُقشتْ محلها زخارف رومانية. ولما رحل ملوك الأسبان إلى مدريد أصبحت الحمراء ثكنة، وما لبثت أن هُجرت إثر انفجار مخازن البارود فيها، فأضحت مهجعا للغجر، وقطّاع الطرق.
وحينما اقتحم نابوليون أسبانيا مطلع القرن التاسع عشر، ونصّب أخاه ملكا عليها، إتّخذ منها جيشه حامية منيعة. وحيكت أساطير كثيرة حول الحمراء، أوردها"أرفنج"في كتابه عنها إثر زيارته لها نحو عام1830، ولم يعد الاعتبار لهذا الأثر المعماري المترف إلا في القرن العشرين، فأصبح أهم معالم الأندلس الأسبانية. أمضيت ساعات خمس في لذة مدهشة، ولما قادني الممر المشجر إلى الخارج كنت بدأتُ أفهم على نحو ما معنى بأن تكون للحياة قيمة، وأخيراً طلبت إلى مرشدة أسبانية أن تصوّرني عند المدخل، شابة في العشرين، شكرتها، وقلت مازحا إن كانت تعرف أن أجدادي هم الذين بنوا هذا المكان. صعقتْ، ودهشتْ، فالعرب بالنسبة لها كائنات موجودة في التاريخ فقط، ويذكرون كجزء من ماضي أسبانيا. عظمة التاريخ غادرة، وعبء يصعب حمله عبر الزمن. عدت إلى مركز المدينة، ثم صعدت جوار الوادي في الجهة المقابلة إلى "ساكرومونته".
فيما توجهت إلى قرطبة بدأت استعيد طوال الطريق غرناطة مرة أخرى. فقد أمضيت اثنتي عشرة متواصلة في التعرّف إليها بعد زيارة القصر الحمراء، فمنذ الرابعة عصرا إلى الرابعة فجرا أتيت على أهم معالم المدينة. إذ زارني صديق فطلبت أن نتوجه إلى الكاتدرائية العظمى، وهي بناء فخم علّقت على جدرانه لوحات أصلية لـ"غويا"و"فيلاسكس"وآخرين، وبدا المسيح مثيراً للشفقة أكثر من الرحمة، فالرموز المسيحية تميل لإبداء الضعف، واستدرار العطف، لكن المفاجأة كانت في القاعة الكبرى ذات الأعمدة الشاهقة، والأقواس القوطية، فبناؤها مركّب، ومثير للرهبة. دخلنا المتحف الصغير المجاور الذي يخلد أعمال الملكين الكاثوليكيين"إيزابيل"و"فرناندو"وتفحصنا هدايا ذهبية وفضية، منها منحوتات لـ"كانو"تتناثر في أماكن كثيرة، إحداها لرأس"يوحنا المعمدان" أنجزت في منتصف القرن السابع عشر، وأثارني سجل كبير باللاتينية خاص بأعمال الكنيسة، ومصروفاتها المالية للفترة1510-1522 ويذكر بمخطوطات العصور الوسطى.
غادرنا الكنسية بعد ساعتين، فتجولنا في الأحياء المجاورة: المدرسة العربية، ثم القيصرية التجارية التي كانت إسطبلا للخيل، وشربنا قهوة، ثم مضينا إلى البوابة الملكية التي دخلت منها القوات الأسبانية حيث استسلم أخر ملوك بني الأحمر، وفي هذه الساحة كان قسيس غرناطة يأمر بقتل بقايا المسلمين إذا رفضوا الانخراط في النصرانية. مررنا بضفاف نهر"الشينيل"الذي يجري تحت المدينة، وقصدنا الحي العربي حيث يذكّر كل شيء بالعرب: الشاي، والموسيقى، والمعمار، فارتحنا لساعة، ويممنا شطر"البايثين"وهو الاسم العربي لحي"البزازين"القديم، ووصلنا إلى معبد القديس"نيقولا"إذ تنبثق منه للرائي القصور الحمراء خلف الوادي، ويظهر قصر كارلوس الدائري، وإلى اليمين"جنة العريف"وقد سطعت المباني تحت الأضواء المبهرة. اغتسلنا، وشربنا الماء من بئر عربية قديمة تتدفق مياهها من صنبورين، ورحنا نخترق الأزقة الضيقة المرصوفة بالحصى ناحية"ساكرومونته"مكان الغجر، وكهوف"الفلامنكو"والطرقات الضيقة. أعلنت الساعة الواحدة ليلاً، وقد بدأت الكهوف تغلق، ولم أحظ برقصة فلامنكو. اتجهنا إلى جزء آخر من الحي العربي حيث مئات الشباب يمرون في شارع ضيق مترنحين، ذهاباً وإيابا، فعثرنا على مطعم مغربي تعمل فيه فتاة صينية، وراقبنا الألفة البدائية لبشر من مختلف الاعراق يمتّعون بعضهم، ويصخبون، ولما غادرنا الحي كان العمال يغسلون الشوارع الضيقة بمياه هادرة كالفيضان. فوصلت فندقي في الرابعة فجراً. تعلّقتُ بغرناطة الغنية بالتاريخ، والبشر، والحياة.
ثم انطلقت سهما منفلتا إلى قرطبة أريد أن أشكّل فكرة عن عالم كنت أعرف عنه قليلاً. فأخذتني حافلةُ حديثة ناحية الشمال الغربي إلى قلب الأندلس، مررنا بكاله، والكوديت، وبابينا، وأسبيخو، ثم قرطبة، وكلما ابتعدنا عن غرناطة الرابضة عند أقدام جبال"سييرا نيفادا"كانت أشجار الزيتون تغطي التلال، وتتكاثر حقول عباد الشمس. فوصلت عصرا، وجررت حقيبتي إلى نُزل"سينيكا"في الحي اليهودي القديم"الخدرية"المجاور لمسجد قرطبة وكاتدرائيتها"المثكيتا". فتحت لي النزل عجوز قصيرة ضاحكة، وأخبرتني بالثمن، ثم قادتني إلى غرفة بيضاء تكاد تندفع شجرة برتقال من نافذتها الوحيدة. استفسرت عن"الفلامنكو"فأخبرتني بحفلة تقام الليلة، واشتريت تذكرة وأنا في النزل.
خرجت أتعرّف إلى المدينة. الحي أبيض، وطرقاته الضيقة مرصوفة بالحصى، وعلى مبعدة مئة متر تنتصب منارة مسجد قرطبة الكبير الذي بناه عبد الرحمن الداخل بعيد وصوله المدينة في عام 755، وتأسيس الحكم الأموي فيها بعد انهياره في دمشق بست سنوات. توجّهتُ إليه عجلاً، فهالني مزيج من الحضارتين الإسلامية والمسيحية، فتداخلت الثقافات فيه: الأعمدة، السقوف، الممرات، والتصميم العام، المنارة إسلامية ولكن اللوحات والهياكل، والمحاريب، مسيحية. وجدت الكنوز الذهبية للكنيسة، والشمعدانات، والنواقيس، والأعمدة التي تذكر بالزيتونة والقرويين، ثم المنارة الشاهقة التي أُزيلت عمامتها الاسلامية، ونصّرت، وعلقت فيها أجراس هائلة. أفعمتُ بروح عمقت فيّ أحاسيس القصر الحمراء.
غادرت المسجد إلى النهر المجاور، وعبرت الجسر إلى الناحية الثانية حيث البرج العربي، إذ استقبلني موظف أعطاني جهازا ناطقا يصف الحضارة العربية في الأندلس: الموسيقى، والعمران، والزراعة، لكن الأمر الذي جذبني على نحو منقطع النظير غرفة الفلاسفة التي تمثل التداخل الثقافي بأجمعه، غرفة فيها من اليمين إلى اليسار: ابن ميمون، ثم ابن رشد، وابن عربي، ثم الفونسو العاشر. مسلمان، ومسيحي، ويهودي. أربعة من كبار رموز الأندلس بأزيائهم القروسطية، وبتماثيل من الشمع الدقيق الصنع. وحينما دخلت كان الحديث لابن رشد، يصل عبر الجهاز، ثم ابن ميمون، وابن عربي، فالفونسو العاشر، وكلهم يعرض موقفه من قضية الحقيقة والشريعة التي كانت من شواغل اللاهوت في عصرهم، فتضاء الأنوار على الشخصية حينما تبدأ في عرض آرائها. لا أعرف لم راقني عرض ابن رشد من بينهم، وحينما ألقيت بحثي عنه في المؤتمر الدولي الذي عقد في القاهرة في ربيع عام 2002 كنت أستعيد ذلك الهيكل الشمعي الذي يجهر بالحقائق العقلية واثقا، والذي جرّ طريدا من مسجد قرطبة، وأُحرقت كتبه، ونُفي إلى مراكش. وجدت مزيجا من العقائد والأعراق في حوار عميق، فأين نحن الآن من هذا التلازم الذي لا سبيل سواه!.
خيّل لي أن ابن رشد وابن عربي أكثر شباباً بين الآخرين، ولم أنس أن ابن عربي كان شاهداً على إعادة جثة ابن رشد من مراكش إلى قرطبة حينما عودلت بتواليفه على دابّة، فأورد في "الفتوحات المكية"قول الناسخ ابن السرّاج"هذا الأمام وهذه أعماله" فقال ابن جُبير الذي حضر ذلك، وكان من خصومه قبل وفاته " نِعم ما نظرت، لا فضّ فوك"وهو القائل حينما كان ابن رشد حيّا"إن تَواليفه تَوالف". في ربيع العام الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي، أُخرجت جثة الفيلسوف من قبرها الذي دفنت فيه، وأُرسلت إلى قرطبة لتوضع في قبر جديد. غادرت القاعة البيضوية وأنا مشبع بحضور أقطاب المدينة، فواصلت صعودي في سلّم البرج إلى أن بلغت سطحه الأعلى، ومن هناك وقعت معظم قرطبة تحت ناظري. تنشقت الهواء القادم عبر السهول المجاورة، ورأيت الجسر القديم بقناطره العربية، والمياه الغرينية الحمراء، والريح تنفث في داخلي لذة الحبور والمتعة، فهبطت، وعبرت الجسر ثانية إلى النزل في الثامنة والنصف. غمرتني سعادة عميقة، فتمدّدتُ قابضا بيدي غصن البرتقال عبر النافذة الخشبية.
وصلتُ محل"الكاردينال"قبيل عرض"الفلامكنو"بدقائق، بعد أن تهت في الأزقة الضيقة والمتقاطعة للمتاهة اليهودية، فوجدت يابانية تشاركني المنضدة التي حجزتها. تجربتي بكرٌ في معرفة هذا الرقص الغجري. ظهرت لي الحركة الأولى سمجة، ومفتعلة، وآلية، للشاب والفتاتين، ولكن عدوى الانسجام المريع سرت إليّ بعد دقائق، حينما اكتشفت أن الفلامنكو يستند إلى الإيقاع بالأرجل، والقوة المحكمة، والانسجام المنضبط، فتناثر تحفظي في الفضاء المفتوح المملوء بالمشاهدين حينما بدأت الرقصة الثانية التي جرتني من برود الملاحظة إلى روح المشاركة الحارة، فانتقل الايقاع إلى دمي. كان رقصاً بارعاً أدّته فتاة ثم اثنتان، فثلاث، وأخيراً خمس برفقة الشاب الأول. لفت انتباهي دفء الإيقاع، ثم حرارته المتصاعدة، والذروات المفعمة بالقوة، وهو رقص مرهق يقوم على الحركة السريعة وضرب الأرض بكعب الحذاء من أجل ضبط الإيقاع، ثم الانتقال السريع، والانحناء، والتقدم، ثم الدوران، والعودة. الفلامنكو ثقافة جسد، وحركة يعبر بها عن جوهر الثقافة الأسبانية التي تبدو لي بشراً وتاريخاً تمتاز بالحيوية.
وفي الصباح انطلقت إلى مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمن الناصر، رأس الجيل السادس من أحفاد صقر قريش، على سفوح جبل العروس بمواجهة قرطبة، خلال حكمه الطويل الذي زاد على نصف قرن، وتوالى أبناؤه على تشييد قصورهم فيها إلى أن انهار ملكهم في نهاية العقد الثالث من القرن الحادي عشر. بدا المكان مهجورا على نقيض الحمراء. تجولت في الأطلال العربية، ولم أشعر باستثارة المنحوتات النقشية فطالما رأيتها، لكن قاعة عبد الرحمن الثالث أعجبتني كثيراً. صمّمتْ الحدائق وكأنها الفضاء المكتمل للقصور، ولكن الدهر غدر بكل شيء، وحيثما يكون ثمة مجد أجد في نفسي إحساساً بالزهو. أمضيت وقت الضحى أتعقّب خطاي في متاهة من خرائب التاريخ كالباحث عن وهم، وعدت ظهرا بالحافلة عبر طريق ضيق معبّد، تناثرت على جانبيه قطعان من البقر والماعز، ولما التفت ظهرت الزهراء لوحة باهتة ارتسمت على صدر الجبل. أرغب في التعرف إلى قرطبة في نهاية الأسبوع، فخلدتُ إلى راحة القيلولة استعداداً لليل. وغادرت غرفتي في الخامسة والنصف. خرجت من المكان المفعم بالتاريخ. ابتعدت عن الخدرية، واتجهت إلى قرطبة الحديثة. الشوارع خالية فاليوم هو الأحد، تجولت بين مبان جميلة، وفي شوارع مرصوفة بالطابوق. مررت بحديقة مزهرة، ونافورة تقذف سلسلة فضية من الماء نحو السماء، ثم عبرت طرقات بدت واسعة إلى شارع رئيس آخر، وعدت من الجهة الثانية، وجلست في الساحة الكبرى حيث النافورات والفارس المسيحي أعلى النصب.
أردت صباحا إلقاء نظرة أخيرة إلى قرطبة، فتوجهت إلى القصر"الكاثار"وسط الحدائق الغناء، وغادرت النزل إلى محطة الحافلات ظهرا باتجاه أشبيلية عاصمة مملكة بني عبّاد. استغرق الطريق ساعتين إلى الغرب، أقمت في نزل"سان بنيتو"جوار المنطقة العتيقة"سانتا كروث"وخرجت في الخامسة أتعرف إلى المدينة التي فتحها موسى بن نصير. زرت الكاتدرائية العظيمة"الخيرالدا"وتوجهت إلى ساحة"نافيو"حيث ارتحت قليلاً، ومررت بشوارع ترشح بالتاريخ والمهابة، رأيت"الأرشيف الهندي"الذي يحتوي وثائق الفتح الأسباني لأميركا الجنوبية، وتذكرت كولومبس الذي زرت تمثاله في قلب غرناطة. مررت بقصر"سان فرناندو"الذي أصبح مكتباً للبريد، الأمر الذي يؤكد تقلّب الأقدار، واتجهت ثانية إلى"سانتا كروث"التي تشبه"الخدرية" لكنها ذات مبان شاهقة. أعشق الأحياء القديمة لمقاومتها الزمن، ولفتنة الشرفات المشرعة على الريح، والنوافذ الزرق، والمقاهي المرمية على الأرصفة الحجرية، والنادلات بالملامح الغجرية. سمراوت البحر المتوسط اللواتي لا يقاومن.
عدتُ إلى النُزل مرهقا، فغطست في نوم عميق قطعة كابوس، إذ وجدتني أعترض قطارا هائجا بجسدي، فاستيقظت ظمئا، ودرت في باحة النزل مترنحا أبحث عن ماء، أعاد الماء القراح روعي، فانتظرت إلى الصباح عبثا زيارة النوم. ولى دونما رجعة، وبقيت في انتظاره وحيدا، تائها، لكنني عازم، وراغب، وقوي، وعارف بما أريد. في الصباح غادرت النزل، وأشبيلية تستيقظ لتوها، النادلات يضعن الكراسي على الأرصفة في المقاهي، والموظفون عجلون في طريقهم إلى العمل، والبنوك لم تفتح بعد. أسبانيا معبأة بأسماء القديسين والقديسات: تحملها المباني، والمطاعم، والساحات، فالكاثوليكية في زهو قوتها بداية من عصر النهضة جعلت منهم المثل الأعلى للرعية. وصلت إلى الكاتدرائية في العاشرة والنصف، ودلفت من بوابتها الكبرى، فإذا بي أمام قاعة يقام فيها قدّاس. انزويت جالسا مع جماعة من الشيوخ والعجائز، وهم يرددون"آمين"أمام قس عجوز. بدا لي الطقس مدنيا أكثر مما هو ديني، فالألوان الزاهية لملابس الحضور، والاختلاط، وتناوب الخروج والدخول، كل ذلك دفع بالمظهر الديني إلى الوراء على الرغم من أن القداس في أكبر كاتدرائية في المدينة. ذهب بصري إلى الأيقونة في الواجهة، والثريات الكبيرة المعلقة، والنوافذ الطولية المزججة بألوان داكنة، والشموع، والمؤمنين يحملون كتيبات صغيرة يتلون صلواتهم وأدعيتهم في سلام بدا لي مناقضا لما كانت تمارسه الكاثوليكية من عنف في القرون الوسطى في أوربا، وفي أميركا الوسطى والجنوبية منذ القرن الخامس عشر، وقد رسمتُ صورة مفصلة لذلك في كتابي"المركزية الغربية". غادرتُ القداس لأدخل الفناء الواسع للكنيسة، ثم أروقتها المثيرة للعجب فبدت لي أنها تفوق كاتدرائية غرناطة ضخامة ومهابة، وتكشف أن ثروات الكنيسة ضخمة جداً، فباسم الكنيسة كانت تنهب المستعمرات.
على أن الشيء الذي استثار إعجابي هو المنارة السامقة التي دُمجتْ في الكنيسة، وأصبحت جزءاً منها. حوفظ على المنارة الإسلامية، وأكمل أعلاها ببناء كنسي يحمل الأجراس، ووضعت تماثيل القديسين على حافات سطحها، وفي أسفلها كتب بالعربية والأسبانية النص الآتي"أمر الخليفة أبو يعقوب يوسف عريفَه أحمد بن باسو بتشييد هذه الصومعة في 13من صفر عام580 هـ"26مايه1184م"فتم بنائها(= هكذا) علي الغماري في ربيع الآخر من عام593هـ"19مارس1197"من خلال خلافة أبي يوسف المنصور، فجدّد المهندس فرنان رويث هذه الصومعة، وزاد في أعلاها قبة الأجراس في عام1568فنقشت هذه الكتابة في عام1984م تمجيداً للذكرى المئوية الثامنة لإنشاء هذا المنار العجيب."وهذا يعني أنها بنيت في آخر سنة من خلافة أبي يعقوب يوسف الأول، ثالث خلفاء الموحدين.
والخيرالدا نصب جرى تركيبه على منارة المسجد تعويضا عن التفاحات الذهبية التي نصبها العرب فوق المنارة التي كان ارتفاعها96م، وتتكون من طوابق كثيرة، وفي الأخير منها، نصبت ثلاث تفاحات كبيرة وواحدة صغيرة مغلفة بالذهب بوزن ستة آلاف مثقال، قام بصنعها وأشرف على نصبها أبو الليث الصقلي، ثم تحولت المنارة بعد سقوط أشبيلية عام 1248إلى برج للكنيسة. وفي عام 1355ضرب المدينة زلزال عنيف أدى الى سقوط التفاحات، فقرر الأسبان تعويضها بنصب آخر من النحاس هو"الخيرالديو"الذي يبلغ وزنه 1500كيلوغرام، وهو عبارة عن تمثال مع شارة دوارة تحركها الرياح، صنعها الفنان بارتولومي مورين عام1568. منار عجيب، تتلاشى بإزائه كثير من الأعاجيب، يتكوّن من أربع وثلاثين طبقة، ارتقيته صعدا على الأقدام، وحينما وصلت الطبقة الثالثة والعشرين سجّلت ذكرى على جدار إحدى النوافذ باسمي وتاريخ الزيارة. تفحصت البناء المتكوّن من صرح خارجي بعرض يزيد على مترين، وهو مربع الشكل فيه نوافذ تكشف سُمك البناء، ثم ممر بعرض مترين أيضاً للصعود سيراً دون أدراج، ثم البناء في الوسط وهو صلب المنارة، وبين طابق وآخر، وضعت في الوسط الآلات التي استعملت في البناء، وحينما شارفت القمة تنفست الصعداء، فإذا بالمشهد المذهل لأشبيلية من الأعلى وهي ترتمي على ضفة الوادي الكبير. تأملت الأجراس المائلة المعلقة أعلى المنارة، أربعة منها يزيد وزنها على طن، ونحو ستة أو سبعة أخرى معلقة إلى جوارها. تمنيت أن أراها تقرع. نظرت إلى الساعة فإذا بنا في منتصف النهار، فسألت جارا لي إن كان من المفترض أن تقرع في هذا الوقت، وقبل أن أكمل الجملة قرعت بشدّة ثلاث مرات فوق رأسي على ارتفاع ذراعين، فتحقق ما كنت انتظره منذ زمن طويل، دخت بضجة الأجراس، ورنينها يتردد في أرجاء أشبيلية، فكأن رأسي طبل من نحاس. وكمن وقع على كنز فاختطفه هاربا، هبطت جريا يدفعني انحدار الممر إلى باحة الكنيسة. اخترقت"سانتا كروثا"إلى"سان بنيتو" فحملت حقيبتي، واتجهت إلى"سانتا كوستا".
غادرت بالقطار السريع"آبه"باتجاه مدريد. سفر يفوق سفر الطائرة روعة، ويقارب سرعتها. بعد أن تشبع نظري بهضاب الأندلس، وجبالها، وغاباتها، وأنا اخترقها صعدا إلى الشمال لذت بـ"الدون كيخوته"أقرأ مغامراته التي لا تمل. وصلت مدريد عصرا، وسكنت في نزل ذي أحجار رخامية، وهاتفت محسن الرملي، فالتقينا في مقهى قرب الفندق، واستعدنا جزءا من ذكرياتي عن أخيه حسن مطلك صديقي الذي أعدم في عام 1990. زرنا المنتزه الرئيس في مدريد وكان خاصاً بعلية القوم في القرون الماضية، وصار الآن مرتعا لأصحاب النزوات. وشربنا القهوة في مقهى"خيخون"حيث ظهرت الحداثة الشعرية الأسبانية. وفي الطريق، ونحن في قلب المدينة، طوقتنا عصبة من المتسولات البوسنيّات الصغيرات، فنهرهن الرملي صائحا، فتناثرن مبتعدات. أصرّ أن يرافقني إلى شقته، فانتزع حقيبتي من الفندق، وأخذنا المترو إلى بيته، فقد كان تزوج أسبانية وأقام معها، وأخلى شقته القديمة لصديقه عبد الهادي سعدون. أمضيت النهار اللاحق بكامله مع الأخير، فزرنا متحف الملكة صوفيا للفن الحديث، حيث لوحات بيكاسو، ودالي، وميرو، ثم غونثاليث، ودومينغيث، وغريس، وبونويل. وقفت أمام الجرنيكا التي تحرسها هيفاء مشرقة البشرة بجدائل غجرية، وتتبعت تخطيطاتها الأولية قبل أن يقوم بيكاسو بإدراجها في لوحته الكبيرة الملصقة على جدار مرتفع.
قبيل وصولي إلى أسبانيا كنت قرأت كتاب"فرانسوا جيلو"الأخّاذ"حياتي مع بيكاسو"وهو مذكرات صديقته الشابة التي فضحت على نحو منقطع النظير الشخصية المركّبة للفنان في أهم مراحل حياته، فالفرنسية ذات الخلفيات التقوية المتأففة، أسقطت عليه كل مساوئ الأسبان، لم تنظر إليه شريكا بل أسبانيا، وطبقا لمنظورها كفرنسية يظهر القرين سيئا، فأخلاقياته المتوسطية الجنوبية تتنامى في التضخيم خلال صفحات الكتاب، وهو الشر بعينه: الأنانية، الغرور، الطيش، الخداع، النهم، تعمد السوء، إذلال الآخرين ومسخهم. سلسلة متضافرة من صفات السوء تتصاعد في حبكة بارعة الدقة تمسخ بيكاسو، وتحطم أسطورته. وضع مجد بيكاسو وقيمته الفنية بمواجهة رؤية أخلاقية لامرأة احتكمت إلى ضميرها الديني في تقويم، وإعادة تركيب، شخصية نشأت في منأى عن هذه المعايير. ولتعميق هذا الحكم تتواتر منذ البداية إلى النهاية فكرة الوفاء الأنثوي الفرنسي بمواجهة النكران الذكوري الأسباني، فمنظورها ينهض على تجميع ملاحظات عميقة، ولكنها متناثرة، تفضي شيئا فشيئا إلى تقويض أية قيمة لشخصية بيكاسو.
وانتقلت إلى سلفادور دالي الذي كنت مهووساً به أيام الشباب. لوحاته رائعة، ورسوماته غريبة، لم أجد أحب اللوحات"الذكرى الدبقة"التي احتفظت بصورة منها جوار سريري في النصف الثاني من السبعينيات حينما كنت في جامعة البصرة، وهي تصور سيلان الزمن. شغفت باللوحة آنذاك لأنني وضعت نفسي في عبثية مضادة لقيمة الزمن الذي وجدت دالي يذيبه بصورة الساعة المائعة، فلذت بها أحتمي من جهلي في تفسير فلسفي لأحاسيسي متحاشيا مواجهة الحقائق. أما خوان ميرو فرموزه مغلقة، والخطوط العريضة على خلفية بيضاء ظلت عصية عليّ إلى النهاية، ولكن الأصابع المتدلية، والوجوه الضائعة، وغياب التناسب، وتحطيم المنظور التقليدي، شدّني إليه، وبعد سنتين انتقيت إحدى لوحاته لتكون غلافا لأحد كتبي. طفنا بالمتحف إلى أن أصبنا بالإرهاق، ثم اتجهنا إلى وسط المدينة، تناولنا الغداء في مطعم تركي. وعدنا في الرابعة، وقد ادّخرتُ طاقتي لزيارة متحف"البرادو" الذي بكرت في الصباح إليه وحيدا، فأمضيت خمس ساعات في مشاهدة لوحات روبنز، وفيلاسكز. أما غويا فقد شعت لوحاته في قاعات واسعة تزاحم حولها الزائرون.
والبرادو مبنى تقليدي كبير ذو سلالم رخامية متآكلة، دخلته مسكونا بلحظة ترقّب لرؤية أعمال ممهورة بالخلود والألق، وهي الدهشة نفسها التي لازمت دخولي في متحف اللوفر، والمتحف البريطاني، ومتحف أمستردام، فالبرادو - كاللوفر- خزانة عريقة لمدارس الفن الكلاسيكي. بدأت فكرته تلوح في الأفق في عهد كارلوس الثالث، وسعى جوزيف بونابرت، لتحقيق الفكرة، لكنه أصبح حقيقة في عهد فرناندو السابع بتأثير من زوجته الثانية ماريا إيزابيل التي توفيت قبل افتتاحه عام1819وإبان الحرب الأهلية في ثلاثينات القرن العشرين، عهد لبيكاسو بأمانته، ولكن الأحداث رسمت خطرا محدقا بمقتنياته، فأغلق، بعد أن نقلت محتوياته إلى فالينسيا، ثم إلى كتالونيا، قبل أن تودع في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، حيث عادت إليه بعد الحرب. وفيه وجدت الفخامة الكلاسيكية لفنون عصر النهضة، حيث المطابقة شبه الكاملة بين الرسم وموضوعه، فالفن مقيد بالأمانة والدقة، والتمثيل رهين المماثلة، فالصورة البصرية شديدة التعبير عن الصورة الذهنية، ولم تخرّب بعدُ الصلة بين الأصل وكيفية إنتاجه، فذلك من مكاسب الحداثة. وجدت لوحات ضخمة تحتل صدر قاعة بكاملها، لفتتني معايير الجماليات الأنثوية، فالأجساد مملوءة، والجلود ثخينة ومطوية، والأثداء ضخمة نافرة، والأرداف شبه مترهلة، والرجال إما فسوقة قساة بقبعات عريضة، أو محاربون على خيول هائجة يشهرون سيوفا مستقيمة يطاردون المجهول.
ثم انطلقت بالقطار بعد أيام إلى طليطلة، وفيما كنت أسأل عن الكاتدرائية، أجابني شخص بالمغربية الدارجة إنها بالاتجاه الذاهب إليه برفقة زوجته وصديق أسباني، فدعاني لمرافقتهم. دليلنا المرح يدعى لويس، وقام المغربي بالترجمة من الأسبانية وإليها، لويس، وهو أستاذ جامعي من طليطلة، كان مرحاً ومتهكماً، وقادنا إلى الكاتدرائية، فبدا لي وكأنه يهمّ بالركض، ويريد شرح كلّ شيء يراه. أشار إلى مستطيلات نحاسية صقيلة بفعل الأحذية على أرض الكنيسة، وأخبرنا أنها قبور لرهبان، ثم أشار إلى السقف حيث توجد طرابيش معلقة، وقال إن أهل طليطلة يعتقدون أن هؤلاء الرهبان سيدخلون الجنة حين تسقط الطرابيش، لكنها ظلت معلقة مذ وضعت، والرهبان في انتظار وعد الرب. وصل بنا إلى قطعة نحاس أخرى، فأخبرنا أن قسا يرقد تحتها، وقد أوصى أن يكتب عليه"لا يوجد هنا إلا غبار". زرنا غرفة الذهب والمجوهرات، فظهر الثراء الكنسي مرة أخرى، وغادرنا نخترق الأزقة الضيقة المرصوفة بالحصى. أوفقنا لويس عند زاوية علّقت فيها صورة السيدة العذراء في صندوق زجاجي، حيث كومة من الدبابيس والإبر، وأنبأنا أن فتاة تعشق جندياً كانت تأتي لانتظاره في هذه الزاوية، وكان النوم يأخذها أحيانا، فتأخذ إبرة تشكك أصبعها كيلا تنام، وعاد الجندي من الحرب وتزوجا. وبنات طليطلة يأتين ويشكنّ أصابعهن بالإبر بأمل التزوج ممن يعشقن، وهذه الكومة من تلك الإبر.
مررنا بمسجد صغير يجري ترميمه، شبه ضائع بين البنايات الشاهقة. فأشار لويس إلى صخرة بيضاء أمامه، وقال إن المسيحيين كانت لهم كنيسة في المكان، ولما جاء المسلمون نزل المسيح وحفر حفرة، وأشعل سراجاً، ووضعه فيها، ولما طُرد المسلمون من طليطلة، بعد قرون، جاءت الجيوش المسيحية، فحرنَ حصان القائد في مكانه، فأمر بأن يحفر المكان فإذا بالسراج مازال مضاء. افترقت عنهم، واتجهت إلى قلب المدينة القديمة، إلى الحي اليهودي"الخدرية"الذي يماثل الحي نفسه في قرطبة. وعلى الرغم من أن أشبيلية، وقرطبة، وغرناطة، وطليطلة، بدت متشابهة إلى حد كبير، بالنسبة لي، إلا أن الأخيرة ظهرت وأبهى، وأعظم، إنها تقع على جبل أشبه بهضبة عظيمة مشجرة، وتترامي البيوت المتكونة من عدة طبقات على السفوح، تفصل بينها شوارع ضيقة، ومعظمها لا يسع لمرور السيارات، وهي من مدن المنطقة الوسطى. نضرة، عريقة، نظيفة، ومتحف عمراني كبير، تتنفس معاً عبق الماضي والحاضر في نوع من التوافق الخصب، فطرز القرون الوسطى الإسلامية لهذه المدن، وأزقتها الضيقة، لم تحل دون شيوع الروح العصرية فيها حيث الحانات الجميلة، والمطاعم الفخمة، ومحلات الأزياء الحديثة، فضلاً عن المصنوعات التقليدية، وفي مقدمتها السيوف التي كانت مشهورة في كامل أرجاء أسبانيا.
ثم انحدرت إلى الطرف الآخر من المدينة لتصفّح المنساب بهدوء بين ضفاف طينية، فإذا بي أمام منزل"غريكو"الرسام الذي عرفني إليه كازانتزاكي في سيرته الأخاذة"تقرير إلى غريكو" وقال عنه إنه "معجون من التربة الكريتية" فهما يتقاسمان دم سلالة واحدة. بوابة المنزل الخشبية مشققة، والبناء يعود إلى ما قبل أربعة قرون. وعدت إلى محطة القطار وقد بنيت على طراز المدينة القديمة، وتذكر بالمحطات التي تظهر في أفلام رعاة البقر. ويمكن توقع ظهور"كاوبوي"على حصانة من السهل المجاور. من هذا الجانب من السهل انطلق"دون كيخوته دي لا مانتشا" في رحلته الخيالية المجنونة، فإقليم المانتشا حيث تدور مغامرات الفارس النبيل متصل بطليطلة. أمضيت اليوم اللاحق في مدريد، زرت برج بيكاسو، وتمثال كولومبس الذي بني في عام
1885وقصدت النصب الضخم المجاور الذي يصور الفتوح الأسبانية للعالم الجديد، وثمة نصوص محفورة على الألواح الحجرية الكبيرة، تحتفي بالمجد الأسباني في فتح العالم، واتجهت إلى متحف للشمع. أول قاعاته خاصة بالعرب المسلمين، وارتحت طوال الظهيرة في مقهى خيخون.
ذهبتُ عصر اليوم التالي إلى"ساحة الثيران". بني المدرج المهيب، المناظر لملعب كرة القدم، في عام
1929، وشهد حضور شخصيات عظيمة. وهو البؤرة الجاذبة لمحبّي مصارعة الثيران في أسبانيا والعالم. أروقته الواسعة، وسلالمه الحجرية، ونوافذه الكبيرة، والمقاعد الخشبية العتيقة، ثم شرفته المندفعة في الفضاء، هيأتني لحفلة من عنف، وسرعان ما امتلأ المكان الذي يسع لعشرين ألف متفرج. بدأت المصارعة بجولات ست أو سبع. وتتألف الجولة من مراحل، تنطلق الأولى بدخول المصارع الذي يستفزّ الثور لخمس دقائق من أجل إرهاقه من جماعة من اللاعبين الذين يحتمون خلف مساند من الأسمنت إذا هاجمهم الثور الهائج الذي فوجئ بأنه وسط عالم غريب عنه، ثم يدخل فارسان دُرّع حصاناهما بالجلود الثخينة، وبيد كل منهما رمح طويل، ترافقهما جماعة أخرى من اللاعبين، فيستفزان الثور الذي ينطح درع الحصان، وخلال ذلك يغرز الفارس رمحه في سنامه، ثم يمعن في تمزيق جرحه، وتنتهي الجولة، ليظهر لاعبان يحملان رمحين، يحاول كل منهما غرز رمح في السنام المثخن بالجراح، فتتكاثر الرماح القصيرة التي تمزق السنام، وتظل نابتة في أعلاه، أو متدلية، فتعمّق الأذى، وينسحب هؤلاء ليظهر المصارع الذي يتقصّد إرهاق الثور برايته الحمراء وسيفه، فالحيوان لا يميز بين الألوان، ويهجم على غمامة معتمة أمامه، وكلما تحرك زادت الرماح تمزيقاً فيه.
ويعود المصارع لأخذ سيف طويل، ورفيع، ومستقيم، ويحاول بالخداع أن يجر الثور إلى وسط الدائرة، تحت أنظار جمهور تدفّق هياجه البدائي، فيتحيّن الفرصة لطعنة تناسبه، وبعد أن يترنح الثور تعباً يستغل الفرصة فيغرز سيفه في أعلى السنام الذي كان أحد الفرسان فتحه بالرمح من قبل، فيغرز الرمح فيه إلى أن يبلغ القلب والأحشاء، وكلما اختفى السيف في جسد الثور كانت الضربة موفقة، وتلاقي تشجيعاً هوسيا من المتفرجين الذين انفلت حماسهم الوحشي. وأخيرا يقوم المصارع بأخذ سيف جديد، فيما خصمه يتهاوى مترنحا، مثخنا، فيتخير طعنة في مخه، وهي الضربة القاتلة التي يسقط إثرها صريعاً بعد أن ينغرز السيف في هامته، وإذا ظل يتحرك يتقدم رجل يحمل خنجراً قصيرا فيطعنه طعنات سريعة قاتلة في الرأس خلف القرون إلى أن ينهار صريعا، فيزفر زفرته الأخيرة، والدماء تشخب من فمه ورأسه، وتتقدم خيول يمتطيها فرسان بأزياء ملونة، فيُسحل الثور بالحبال من قرنيه في حركة استعراضية كرنفالية دائرية إلى الخارج لتبدأ جولة جديدة.
ترجع هذه اللعبة إلى حقبة مغرقة في القدم، ويرجّح أنها عرفت منذ نحو ستة آلاف سنة، وثبت شيوعها في عهد يوليوس قيصر أحد أشهر أباطرة الدولة الرومانية، ويورد لسان الدين بن الخطيب في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وهو من غرناطة، وصفا بارعا لها، وقد كانت الكلاب تقوم مقام اللاعبين المُنهكين للثور" يُطلق الثور، أو بقر الوحش، ثم تطلق عليه كلاب اللان المتوحشة، فتأخذ في نهش جسمه وأذنيه، وتتعلق بهما كالأقراط، وذلك تمهيدا للقاء المصارع الذي يكون فارسا مغوارا يصارع الثور، وهو على فرسه، ثم يقتله في النهاية برمحه" وتاريخ مصارعة الثيران غامض، وملتو، وأقرب إلى أن يكون، في أصوله، طقسا للقتل. ومن المستحيل كتابة تاريخ موضوعي لأي فعل معمّد بالدم. وتمارس المصارعة بنسب متباينة في أسبانيا، والبرتغال، والمكسيك، وفرنسا، وكولومبيا، والأكوادور، وفنزويلا، واستوحاها رسامون كبار منهم غويا، وبيكاسو الذي كان مغرما بها.
عرفت مصارعة الثيران تطورات كثيرة، فالراية الحمراء التي يضلل بها المصارع الثور أضيفت في عام 1725، ويُسمى المصارع matador أما الفارسان اللذان يخزان الثور بالرماح غرض إنهاكه وإغضابه، فكل منهما يسمى Picador. وطول السيف المستخدم في الطعن هو متر واحد، وقد صُمِّم بحيث يخترق قلب الحيوان، وأغلب المصارعين لا يوفّقون في معرفة مكان القلب، فيمزقون رئتي الثور فلا يموت فورا، وإنما تتلاشى حياته بسبب تمزيق أعضائه الحيوية، ويصبح احتضاره عذابا مضاعفا. وقد تنتهي اللعبة بطقس انتصار رمزي يقطع فيه المصارع أذن الثور وذيله، ويستعرضهما أمام الجمهور، ويحتفظ بهما ذكرى مدى الحياة، وفي حال ما أدى الثور عرضًا مثيرا، وتميز بالمطاولة والشراسة، فيُكرم بأن يُسحل في عرض أمام الحاضرين بخيول أعدت لهذا الغرض. ويمثل الأميركيون أعلى نسبة في حضور هذه الألعاب بين الآخرين، وقد جلست جواري أميركية شقراء طوال العرض، كانت تلتذ منفعلة بالمنعطفات المأساوية الحاسمة لمصائر الثيران، وتصدر صفيرا في تشجيع المصارعين، وتخبط المقعد بيديها ومؤخرتها حينما يشنّفون قاماتهم بكبرياء أمام كدس بشري شحنة هوس الانفعال. ومعلوم أن همنغواي كان من أشهر محبي هذه اللعبة بين الكتاب.
وبدأت مصارعة الثيران تواجه بمعارضة شرسة من دعاة الرفق بالحيوان، وكشفت أسرار كثيرة حول الطريقة التي تربى الثيران بها، إذ يحبس الثور أربعا وعشرين ساعة في غرفة مظلمة وضيقة قبل الموعد، فلا يتمكن من رؤية شيء، ولا يسمح له بالحركة، ثم يطلق فجأة وسط الضوء والصياح، فيصاب بالحيرة، وتشلّه المفاجأة، فيما تمعن الرماح في طعنه. وهذه الحال تظهر الثور بمظهر عدواني، والحقيقة فقد دهمه ذهول، واضطراب. وتُخفى عن الجمهور كل هذه المقدمات. وليس من الغريب أن نجد تنويعا لهذه اللعبة في بقايا المستعمرات الأسبانية والبرتغالية في أميركا اللاتينية وآسيا، بل في بلاد الخليج العربي حيث افتتح البرتغاليون الحقبة الاستعمارية في القرن الخامس عشر، ففي الفجيرة، على الساحل الشرقي من دولة الإمارات، تمارس مصارعة الثيران، لكنها بين الثيران فقط، وتقام بعد صلاة العصر من كل جمعة في الأصياف غالبا. والأهالي يعدونها من تراث أجدادهم. وتجري عليها رهانات بين الحاضرين، والمنظّم الذي يقوم بالتعليق والتشجيع وإثارة الحيوانات يسمى"مثير الفتن".
وهذه اللعبة دموية، وشنيعة، لأنها ترتكز على المفارقة غير الأخلاقية بين القوة البريئة والغدر المريع، فالثور الذي رُبِّي في مكان منعزل يفاجأ حينما يُدفع به وسط آلاف الناس الهائجين، وما دام يمتلك القوة، فاللاعبون يخادعونه، ويحتمون من اندفاعاته خلف حواجز الأسمنت، فيزداد تشتتا لأن الهجمات تأتيه من الجهات كافة. ويحاول اللاعبون ويبلغ عددهم أكثر من عشرة بين مصارع، وفارس، ومساعد، ورامح، إنهاك الثور الذي لا يعرف من أين يدهمه الخطر. تبدأ الطعنات تنهال عليه يرافقها استفزاز، وكل حركة منه تضاعف تمزيق جسده بالرماح المنغرزة في سنامه، فيشترك هو وخصومه في التنكيل بنفسه، وهذا يجافي أي مبدأ ممكن لأي منازلة، فكيف بلعبة!! وكلما خارتْ قواه تضاعف غدر خصومه، ولكن الأمر الملفت للنظر هو مشاركة الجمهور المرضيّة في تشجيع المصارع لإلحاق أقصى درجات الأذى بالحيوان الذي كلما مرّ الوقت أصبح خصماً لدوداً للمصارع، والجمهور على حد سواء.
وحينما تأتي ضربة القلب القاتلة، ثم غرزة الدماغ التي يخرّ بعدها الثور صريعا، يبلغ هياج المشجعين ذروته، فتخيّم نشوة العنف الأعمى في الملعب كله، فبدل أن تحل الشفقة على الضحية تندلع الحماسة الانتقامية المتصاعدة ضدها. وطوال الجولات الست أو السبع كنتُ حائراً في تفسير هذه الروح العدائية تجاه براءة مطلقة. ولم يبق أمامي سوى تفسير ثقافي، وهو أن الثور يمثل رمزاً شريراً في طيات اللاوعي الجمعي للأسبان، فوجدتني انظر باشمئزاز لا يمكن طمره إلى بشر تتدافع مشاعرهم العدوانية باطراد ضد الحيوان الذي ينفث من فمه مزيجاً من الدم والزَبد، وهو يرغي في مشهد مروع، فكأن الجمهور يتشفّى من كائن ارتسمت نهايته، وأصبح التخلّي عنه شعورا يستبطن الرغبات الدفينة التي يمثلها الانفضاض عن القوي لحظة انهياره، كما يقع في حالات سقوط الطغاة حيث أول من يتوارى مناصروهم. فهل يتماهى الجمهور مع بطولة زائفة يمثلها المصارع الذي وصل إلى قتل الخصم عبر سلسة مكشوفة من الخدع والمساعدين؟ ولماذا يضج الآلاف بصيحات الاهتياج كلما ترنح الثور الذي يبدو سلوكه غاية في الاستقامة والبراءة الغبية؟ ولماذا يصيحون هاتفين"أُولي"بصوت واحد، فهل لذلك علاقة بنداء"الله"الموروث عن العرب المسلمين، وقد حرّف اللفظ؟ وهل يتطهّر الجمهور عبر التأييد الواضح للمصارع من خمول أو ذنب أو حينما يترنح الخصم مضرجا بدمائه؟.
نشرت هذه المادة بعد استحصال موافقة كاتبها الصديق العزيز الدكتور عبدالله ابراهيم وقد أهداها للمجلة واصدقائه في كركوك .

المشتركون في الجلسة الحوارية الأولى " ثقافتنا إلى أين "

2008/11/12

الشاعر تحسين ياسين


تحسين ياسين يحلم بالجنة سهواً


المجموعة الشعرية للشاعر المبدع تحسين ياسين التي صدرت عن مجلة يورد ستصدر الطبعة الثانية منها وتحتوي على توطئة للكاتب جلال بولات ومقدمة بقلم الكاتب الأثير أنور حسن موسى .
تقع المجموعة في 100 صفحة من القطع الصغير وقد زينت بتخطيطات فنانين أتراك وعراقيين من أمثال الفنان المغترب برهان صالح والفنان القدير ناصر خلف .
التنضيد الداخلي : مكتب الوطن للطباعة و التصميم

2008/11/08

إصدارات مجلة يورد

باقة حب وجرعة ألم

سيصدر قريبا كتاب (باقة حب و جرعة ألم) للأديب التركماني محمد زهدي إبراهيم . يقع الكتاب في (120) صفحة و يتألف من قسمين عربي وتركماني ..
فمن هو الأستاذ زهدي ؟ رجل بسيط كان موظفا في احدى دوائر مديرية التربية في كركوك . في مطلع الثمانينات من القرن المنصرم أقتيد بينما كان يقوم بواجباته كموظف من أجل استفسار (كما قيل له!) ليجد نفسه بعد خمسة أشهر من التعذيب في الزنزانات السرية متهما ماثلا أمام محكمة حكمت عليه بالسجن المؤبد. قضى منها عشرين سنة في سجن أبوغريب. تعلم الحياة في السجن وبعد أن أطلق سراحه وجد في الخارج عائلة ممزقة ووطن مكبل مثخن بالجراح يسير ألى ساحة التمزق .. أن أهم ما يميزهذا الرجل من أقرانه هو أنه تعلم الكتابة وقرظ الشعر والترجمة من عدة لغات بدل حياكة الجوارب والأعمال اليدوية المعروفة في السجون.. دون كل ذلك في دفاتر هربها إلى خارج المعتقل.
هذا الكتاب هو جزء من عصارة عشرين سنة قضاها الرجل من سني شبابه خلف القضبان .. وبعد كل تلك السنين الغابرات وجد نفسه وحيدا مع قلمه ودفاتره ثانية في سجن أرحب يتوسد فيه تراب البلد ويتلحف بسماء الوطن المرصع بالنجوم .. وها هو يأمل أن نشاركه تلك الرقوق التي سطرها بيراعه . رجل عرف كيف يقهر فكرة السجن ليستخلص منها عصارة الصبر ليقدمها لنا كباقة حب، وليكتفي هو بما تجرعه من آلام طوال أكثر من عقدين .

2008/11/04


ثقافتنا إلى أين !

تحت عنوان (ثقافتنا إلى أين!) أقامت يورد- الوطن جلسة حوار فكرية بتأريخ 29.09.2008 عن اشكاليات الثقافة التركمانية ، ودعت إليها العديد من الأدباء والمفكرين والباحثين التركمان .. وكانت لنا فرصة سانحة للتطرق إلى مواضيع ذات أهمية في حياتنا الثقافية والاجتماعية والاعلامية والسياسية، نشرت بالكامل على صفحات المجلة ، وستكون لنا جولات أخرى في مواضيع ثقافية مختلفة من أجل ترسيخ هذا التقليد الغائب عن أولوياتنا .
جلال بولات :
- أرحب بكم أجمل ترحيب لتلبيتكم دعوتنا لحضور هذه الجلسة الحوارية التي تقيمها مجلتكم مجلة يورد- الوطن تحت عنوان (ثقافتنا إلى أين؟) أود أن أشير إلى أن المتحدث أو المحاور له كامل الحرية في اختيار اللغة التي يود التعبير بها . كما فاتني أن أرحب باسمكم وباسمي شخصيا بالإعلامي الكبير وشيخ المذيعين في العراق الأستاذ نهاد نجيب آوجى الذي يشارك في جلستنا هذه. واشكره على تلبيته دعوتنا ، وقد شرفنا بحضوره مشكوراً.. يشاركنا في هذه الجلسة كل من الأساتذة :
- نهاد نجيب آوجى – إعلامي ، الشاعر رمزي جاووش ، الكاتب نيازي أنور قاياجى ، الكاتب زينل آغا آوجى .. الشاعر متين عبدالله كركوكلو ، الشاعر تحسين ياسين .. الكاتب نبيل بكر، الشاعر جاسم محمد فرج ، الكاتب د.سعد صلاح الدين ، الكاتب أحمد ناظم داود

المتسول

قصة طالب فراس
المتسول الغريب الأطوار أصبح في ظل الوضع العام مثل كل شيء قديم .. يعود ذلك إلى عدد المرات التي رأيته فيها جالساً على رصيف الجسر.. لاحظت من ناحيتي أنه اكبر مما أتصور ويبدو انه عديم الإحساس وغريب الأطوار وبليد المشاعر واعتقد ببديهة صافية أنه لا يفكر بشيء.. لابد للسنوات التي غيرت طعمها مرات عديدة أن تبدد الأحاسيس غير المرهفة نحو العالم.. لا أحصي العواطف التي تملكني وأنا أهبه القليل من المال .. وجهه يوحي بتلك الملامح العقيمة بسحنته الجامدة وهو يتلصص من وراء نظارته السوداء ، يدعو لي بطول العمر وكل ما يتوفر من كلمات الأدعية التي تعود إلى جيش من المتسولين والتي ليس لها أي تأثير على أقل تقدير في نفسي .. كان ذلك من عدم الإحساس الذي يميزه بعد تلك اللقاءات التي أراه فيها بالصدفة ، حشدت جميع مشاعر الخيبة وبددت الطيبة عندي ، لقد مضى الزمن الذي لا اذكره من تلك الظهيرة الفائضة .. يومها صرت مشدوها بالرغبة والفضول لاكتشاف حياته السرية ولسوء الحظ فان ما اكتشفته متأخراً ضاع في دهشة قصيرة لم تدم سوى أوصال متقطعة من الذكريات الفاترة . مما أثار حفيظتي فعلاً هو ذلك الإصرار الذي يقاوم عنف النظرات المزدرية للآخرين .. لكي أتخلص من الحرج أنسى أنني لا أعرفه .. تركته مرات عديدة يثرثر وحده وأنا اعرف بوضوح ما يختمر في عقله.. هزتني معرفته و سحره .. اذكر الآن تلك الظهيرة الفائضة ‘ كنت أتكئ على سياج الجسر .. راح الألف و الضجيج يختفي و حركة الناس تهدأ..في اللحظة التي فكرت فيها أن أراه..كان يجلس مرتاحا في ظل فندق الميلاد العتيد المرتفع في السماء الخاصة الفضي بشبابيكه المختفية وراء ورق الكارتون المقوى ، يفترش الأرض ويشرب بهدوء.. سمعته يلقي أشعاراً وغنى بصوته الحزين غناءً شجياً..تأملته بالرتابة ذاتها . بدت آثار السك تظهر بوضوح في صوته.. قام مترنحا سار فوق حصى الخاصة..لم يلبث أن قفز من فوق سياج الجسر بحيوية لا أصدقها ..أدرك انه لن يكف عن الشرب..وقف إمامي وأشار بإصبعه نحوي نظرت إليه كما لو لم أكن قد رايته من قبل ..سحبني من ذراعي و دعاني لشرب الشاي معه في المقهى القريب ..دعاني بصوت ملح ..أنفاسه المعفرة برائحة الخمر ملأت جوفي ، وشعرت بحاجتي للقيء ..يبدو انه ينسجم مع ذاته .. حدثني عن الضجر وساعات الملل غير المجدية ..لم أفكر بالكلمات التي أطلقها فانا واقع تحت تأثير الأسئلة حول حياته السرية ..خطرت لي فكرة الابتعاد عنه.. شعور مفرط بالاشمئزاز يدفعني للهروب منه .. من اللحظات التي تجمعنا على غير موعد ..اللاعواطف أو الكبر هي التي تتملكني .. بتلك الفكرة البائسة التي تصيب المرء أحيانا.. تلك الخيبة التي أحالتني إلى شخص وحيد.. حضرت أمامي كل الذكريات التي يصعب القبض على نهاياتها.. وحدها الأيام التي خلفت هذا اللاترتيب المعين للذكريات ، في السنوات التي كلفتنا جزءا من السعادة التي خسرناها و المصادفات غير المخطط لها لمعرفة حقيقتنا - أهميتنا وتفاهتنا - في ساعات التسكع تلك نتنفس فيها وجودنا الخاص . أحسب أنها ضرورية للتخلص من جنون الرغبات والآمال المحبطة..أعرف أن الأوهام التي اكرهها بمرارة ولدت كثيرا من احباطاتنا والواقع الذي لم يعد يسعفنا في تنفس الطيبة السماوية جعلنا متسكعين بصورة دائمة .. كان يبدو على المتسول الإحباط بصورة مرعبة وهو يتجول دائما في الأسواق..يقتل وقته بشكل مثير للشفقة ..يتسكع أيضا بطريقته اللائقة لشخصه..صرنا نتبادل الأدوار استنادا إلى ما يتوفر لنا من قيم هزيلة ومبتذلة أو قيم يزدهر فيها الجمال والقبح بصورة واضحة..هذا تاريخ لم يعد خافيا وأستطيع أن أدونه لحظة بلحظة، وأفاجأ بالعفوية التي تميزنا والبراءة .. المواقف غير المعلنة وغير المتوقعة صرنا بألفها ونعيشها في ظل العلاقة غير المتكافئة ، لكن لكل منا مغامراته الخاصة وطريقته في التعامل مع الواقع ، على الرغم من نظرتي الدائمة بدونيته إلا انه لا يكف عن إبداء معرفته ، بما يديره من مناقشات صاخبة في مكتبة الحاج أمين في السياسة والعلم والأدب .. بكل فروع المعرفة ، وفضح مستودع أسرار عن الحب والجنس وكأنه يتحلل من نطاق مسؤوليات عظيمة يتجرد خاشع للعالم البعيد الذي يتعذر وصفه بالكلمات . لم أعد أكتم شعوري بالانبهار، فلم يعد غريبا أن يتحفنا بمعرفته عن كل شيء وأي شيء.. يتجلى وجهه عن خليط من الحزن الذي ترسمه تلك الابتسامة الغبية والغامضة.. فكرت أنه مجنون بالمعرفة . عيناه الجاحظتان تفصحان عن ركام، وجهه البرونزي الذي لوحته الشمس كثيراً. ولحيته القذرة وشاربه الذي يغطي شفته العليا تخفيان أباطيل سحر المعرفة .. إن الثقافة الأصلية وحدها التي سوغت القذارة عندي وعند الآخرين الذين عرفوه عن قرب .. وجدت نفسي مرغما على القناعة بأن كل تلك المجموعة من الخرق البالية والمظهر الدائم للرداءة ليست إلا متطلبات ساعات التسول التي تقتضيها الضرورة ، والتي تتيح له هوامش قليلة من الشفقة التي يقف الآخرون على حافتها كل التصورات غير المحددة تعشش في داخلي .. لا أعرف سوى تصورات هجينة عن الذين تخيم عليهم الغرابة وسوء الحظ ، يبقى في نفسي ذلك المظهر الخادع من التوقعات المدهشة ، كلما أريد أن أراه ، يتلاش اهتمامي بالآخرين .. ليست الصدفة هذه المرة هي الوحيدة التي جمعتني به .. إنها مجموعة عوامل الحدوس الشاذة والطارئة، رأيته في المكتبة ببدله نظيفة وقميص مخططا وربطة عنق حمراء ، يسهب في الحديث عن مواقع القوة والضعف في الحكايات العربية .. وحدها المعاني العظيمة والكبيرة التي لا تصبح مجرد كلمات مفخمة . بل إن امتلاكه تلك الظاهرة العجيبة في سرد وقائع وتفاصيل الحكايات بتلقائية مدهشة ، أثارة فيّ التشتت المطلق في القبض على أجزاء الحقائق الخاضعة لردود الأفعال المتسرعة .. قام وصافحني وظل يهز يدي .. لم يعد بمقدوري أن أخلص يدي ولم تعد لي القدرة على ملاحقة الأسئلة عن الصحة و الأحوال التي يتحتم عليّ أن استنبط إجاباتها ببديهة صادمة..أنا نفسي لم أطق روح المكابرة فيّ.. كنت أغمغم في انتظار النهاية .. لم يبد عليه الحرج ولم يند عنه أي تصرف مفتعل مع قناعتي بأن كل تصرفاته تنم عن جنون مسبق..دعاني إلى زيارته في الفندق .. كان يبدو عليه أنه منشغل جدا ..غادرا المكتبة وواصل خطواته بقامته المنحنية في الشارع الذاهب إلى رأس الجسر ..شعرت أن شيئا ما يتدفق في داخلي .. وساوس أو أفكار غير مكتملة للمناقشات البارعة والحجج الذكية حول تدوين الحكايات وسلسلة الوقائع واغاط روايتها .. علمت من الحاج أمين أنه استعان بجهات عديدة للإحاطة بكل ما يتعلق بالحكايات التي ولدتها الذاكرة النقية للبدو كما يصرح بذلك دائماً ويعتقد أنها الثمرة الطبيعية لحياة العرب في ترحلهم المستمر ويجزم أن كثيراً من الأحداث قد حدث في الواقع فعلا ويمكن أن يكون كل شيء فيها ممكن الحدوث .
- اعترف أنني قزم أمام معرفته الموسوعية. بكل ما يتعلق بتلك المعرفة.. حتى بجفون المعرفة الخارق للغاية .. بالحماس ذاته تقبلت في عقلي معظم آرائه وتعليقاته .. كان ذلك بمثابة درس عظيم في المعرفة التحليلية وذاكرتي المشوشة تقف عاجزة عن تفكيك ظاهرة المتسول المثقف بالمقارنة إلى الواقع المقلوب.. كانت تلك المصادفات العاثرة تنمق تاريخاً لم يعد مثمراً.. ملت بجسدي إلى الوراء في شعبة التفاتة فرأيته يعود ذاهلاً .. يهز رأسه ويضحك .. لم أتوقع عودته بهذه السرعة لكن توقعاتنا التي لا تنسجم مع كل توقع خاطئ تثير فينا الإحساس بكل الحقائق المقدسة ، على العكس من ذلك يصبح كل توقع خاطئ كذبة كبيرة تثير فينا الاشمئزاز والهلع .. وقف في داخل المكتبة كأنه يلتقط أنفاسه ، رفع حاجبيه وارتسمت على وجهه ملامح الصراحة .. اقترب برأسه من أذني ودعاني للذهاب معه .. قادني من يدي .. بيده الأخرى كان يحمل كيسا فيه قنينة خمر.. سرنا بضع خطوات خارج المكتبة صامتين وطلب مني سيجارة .. افرد أصبعيه أمام وجهي .. أعطيته علبة سجائر.. سحب واحدة منها وأشعلها تطلع حواليه وجذب نفسا عميقا، والتفت نحوي .
قال لي : لا أحب هذه السجائر .. سادت فترة صمت .. صمت عميق مدمر يصعب التنبؤ بنهايته .. تحدث وحده فتكلم عن الحكاية الأسطورة وسمعته يقول لي بوضوح لقد قدمت بحثا عن تاريخ الحكاية العربية إلى جامعة كمبردج . فسألته مندهشا : درست في كمبردج . ضربت بكفه على صدره .. ألا ترى هذه البذلة وهذا الحذاء .. لم أكن أخشى اتهامه بالجنون .. نظرت إلى حذائه المحمل بالطين الجاف .. قال : إنها من انجلترا .. ألقى بعقب السيجارة بعد أن أخذ نفسا أخيراً .. كان يركز نظراته إلى الأرض . قال إن الدرس في كمبرج يشبه العيش في الجنة المرسومة في داخل كل واحد منا .. لم أشأ النظر إلى وجهه .. تكلم عن الممارسات الجنسية غير الشرعية في ألف ليلة وليلة وأعلن عن حقيقة تاريخية غريبة حول فاعلية الجنس في صناعة التاريخ .. وجدت نفسي في مأزق حقيقي بعد أن تركني وصعد درجات الفندق قفزا .. لقد ظللني بالمخادعة وخجلت .. رأيته يبتسم في أعلى الدرج وأومأ لي بالصعود .. أعتقد أن عاصفة من الأفكار المشرقة لا يمكن لها أن توقف إرهاصات رجل مجنون.. وأشار لي بالدخول إلى الغرفة المجاورة للدرج .. لست أدري إن كان هو الذي أغلق الباب خلفي واجهل النشوة التي يمكن أن يتمتع بها في هذه الغرفة المظلمة.. جلست على سريره القذر وشممت رائحة المكان الزنخة .. يمكن أن تكون رائحة السرير نفسه .. ثنى ركبته على الأرض أمام مجموعة من الكتب المرمية بإهمال على الأرض وسحب كتابا مجلدا لمخطوطة قديمة .. قلب الفصول الأولى وقرأ بانجليزية طلقة بذلك الهاجس المبهم توقعت أن يحدثني عن تاريخه.. لا أظن انه يحب الخداع أو الكذب.. أنهى قراءته فتكلم عن تأثير الحكاية العربية على الكتابات الأدبية الحديثة في أوربا وأمريكا اللاتينية، وخلق النموذج المتقدم للرواية الحديثة.. كان أستاذي المختص بالدراسات الشرقية يهوديا متطرفاً وكان في اغلب الأحيان يشكك في تاريخ الشرق.. فيما يتعلق بالعقل خاصة.. لقد احتفظت بهذه النسخة بعد أن طردتني السلطات البريطانية بحجة الإرهاب الفكري.. غاب عني صوته وبدأ يبكي ويفرك عينيه مثل طفل.. كي أتخلص من الحرج.. تركته يبكي بنشيج مر وغادرت الفندق بخيبة أمل كبيرة.. لقد أصبح تاريخاً .. لا أنسى الأيام التي تصبح مجرد ذكرى ولا الذكريات التي تحفر في الذاكرة بعمق على الرغم مما افتقده من الصدق العاطفي الذي لم يعد يضيف أي متعة .. قبل أن يوشك نهار اليوم التالي على الانقضاء سمعت بنبأ موته..لم أجد صعوبة في الإحاطة بتفاصيل موته ، ولكن الميتات الغريبة تدفعنا لاكتناز الأسئلة مما تفرزه المشاعر من الشفقة .. وجد ميتا وعلى الأرض قنينتا عرق في مظلة انتظار الحافلات قرب السوق المركزي.. شعوري بالذنب جعلني تحت رحمة الوهن ..إنها غلطتي .. لم يكن بمقدوري كبت الدموع ولا مواساة نفسي .. سرت فكرة في داخلي للذهاب إلى مكان موته وأنا أفكر في صورة الموت بهذه الطريقة.. رأيت مصطبة الانتظار التي نام فوقها أو مات فوقها في الليلة الماضية .. لا فرق ..أصابني الذهول .. لم يعد بمقدوري تأويل الحقائق، فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي نواجهها لوحدنا . داهمني شعور خفي كاليقين براحته.. فالموت فوق مصطبة الانتظار خير من الموت في غرفة مقفلة ..

ما قاله الأصدقاء لكركوك الهاطلة في القلب


كتابة : فاروق مصطفى

بالرغم من مرور عامين على رحيل القاص "جليل القيسي" وترك عالمنا إلا أنني أحس خطواته وهي تدب على طرقات المدينة ، كلما اقترب من الأماكن التي اعتدت مشاهدته فيها.. أشعر حركاته وانتقالاته ونظراته التي يلقيها جهة اليمين أو اليسار ، وكأنه بصحبة الإله البابلي "مردوخ" الذي هبط كركوك في إحدى ليالي الربيع داعيا "جليلا" إلى أحد احتفالاتهم الباذخة – انظر " قصة مملكة الانعكاسات الضوئية " أحسه وهو يقطع "شارع الجمهورية" أو يتأنى أمام مكتبة الدار الوطنية، وحتى أنا أقطع كل هذه الطرقات أتخيله منبجسا من بين زحامات السابلة وهو ذاهب إلى موعد مع أحد الأصدقاء أو زيارة إحدى مكتبات المعشوقة "كركوك" وكان حريصا على تجواله العصري فهو يعده أحد طقوسه اليومية ، فثمة أماكن معينة يرتادها من محلات أو مكتبات في ساعات العصارى الكركوكية ، وأعتقد أن هذه العادة ظلت تصاحبه إلى سني حياته الأخيرة.
عرفت الراحل "جليلا" عام 1964 في مقهى "المدورة" وكان يسمى في تلك الأيام البعيدة بمقهى النصر ومع الشاعر (جان دمو) وكانت هذه البداية في التعرف على بقية الصحب الذين عرفوا في الأعوام اللاحقة "جماعة كركوك" تمتّنت وشائج الصداقة بيني وبينه وقويت واستمرت الزيارات والتجوالات في طرقات المدينة وكثيرا ما كنا نلتقي في منزله القائم في محلة "شوان" القريبة من سوق (هرج كركوك) – نجتمع في داره وتخرج الأوراق المحبرة من جيوبنا وتبدأ القراءات ثم المناقشات التي تستمر إلى ما بعد منتصف الليل .
الآن مع ساعات العصارى في كركوك يشاهد "جليل" وهو يصعد شارع الجمهورية أو يهبط صوب ميدان "أحمد آغا" بخطواته السريعة وكأنه يريد أن يدرك موعداً مع صديق وقد حمل معه كتابا أو مجلة ، وأتخيله في بعض الليالي يصعد قلعة كركوك وهو يتأمل القمر النعسان الهابط إلى أمواه نهر "الخاصة" للاغتسال برذاذاتها الناعمة ، وربما هبط بعض أصدقائه من مملكة "بابل" القديمة لمنادمته ، وكذلك بعض الشخصيات الروائية العزيزة من عند القديس "دوستويفسكي" أمثال غروشنكا أو الأمير موشكين أو الأب زوسيما ليدعوهم إلى منزله ويحتفل معهم بطيبة وكرم المدينة التي أحبها حتى النخاع، وآثر البقاء فيها حتى انطفاء الشمعة الأخيرة بين كفيه المعطاءين.
"عباس عسكر" هو الراحل الآخر الذي أحس دبيب خطواته تضرب طرقات "شاطرلو" وهو يغادر داره القريبة من تلة (تعليم تبة) للقيام بجولته الصباحية أو المسائية، عهدي به يسير في الشوارع والطرقات المنتشرة من أمام حمام (علي بك) هبوطا إلى سوق القورية. كنا نلتقي في الكثير من المقاهي الصغيرة الوادعة السكرى بضوعات شايها المهيل ، والراحل "عباس عسكر" امتدت صداقتي معه أكثر من أربعة عقود دون أن يصيبها كدر أو يعكر صفوها شائب. بدأت في مقهى تعب كان يستلقي على الجانب الأيسر من شارع الأوقاف ، وفيما بعد هُدم ، وأقيمت مكانه بناية دار العدالة الجديدة ، نذهب إليه صلاح فائق وجان دمو وأنا، مجتمعين نتدفأ بأقداح الشاي وننفث أدخنة سكائرنا وأحلامنا الحافية ثم ندخل قصائدنا نقضم رغفانها ونتلمظ إدامتها وربما كتبنا قصيدة جماعية رتلناها في أذان كركوك الناعسة عندما يبدأ الغسق يتقدم على مناكبها، وتتفتح أقاحيها القرمزية على مدى فضاءات المدينة الرحبة .
دعانا الصديق "عباس عسكر" إلى منزله – الزمن أواسط الستينات – وفي تلك الأيام كان يسكن (عرفة) وهو في سلك التعليم وقد اشترى السيارة الأولى في حياته ، وأعتقد أن ماركتها كانت (موسكوفيج) خضراء اللون تجمعنا في دار "جليل القيسي" وبرفقة صاحبيّ الدائميين : صلاح فائق و جان دمو وقادنا عباس عسكر إلى داره وقد اصطحب (جليل) معه جهاز التسجيل ذات البكرات المدورة وكنا اكتشفنا صوت "زكي موران" وعندما كنا نخمر لا ندري ننتشي بهذا السائل الذي لا تنزل الأحزان ساحته أم بصوت هذا المغني الخالد الذكر. تجتمع لك الصهباء مع الأوراق المزهرة بالأشعار وصوت كهذا الصوت الذي يخترق الأشياء والمسامات وأنت محاط بهذا الجمع من الصحبة الطيبة تحس أنك متوّج بأحلامك وحكمك ، وبهذه الصحبة الزهراء – كنا لا نحس إلا بأصواتنا التي تعلو ولا تهدأ ، هي عادة الصحب وهم يتناقشون حول ماهية الشعر وتقنيات القص والدهاليز والأقبية التي تنحفر في روايات القديس دوستويفسكي .
عندما اشتد المرض على الصديق عباس في صائفة 2007
كنت أزوره زيارات متقاربة وأرى أمامي عوده يجف ويسري الإعياء في بدنه الناحل إلا إنه يكثر الذكر بصداقتنا و يقول لي : تعلم عمر هذه الصداقة ، وكيف أنها استمرت كل هذه السنين الطوال لأننا ترفعنا على السفاسف وتكبرنا على المنافع وأنا أخبرك أيها العزيز بأن صداقتنا ما زالت مستمرة تنبض وتتنفس ، وكلما مررت من تلك الأماكن التي كنت التقيك فيها أشاهدك وأصافحك وأتبادل معك كلمات المحبة والتوادد واسترجعنا ذكرى ذلك العصر الذي صعدنا فيه إلى مقبرة "تعليم تبة" للعثور على قبر العزيز (يوسف الحيدري) وتلاوة آيات عطرات على روحه ، إلا أننا لم نعثر القبر المنشود ومع ذلك جلسنا عند قبر وفتحنا مصحفينا ثم بدأنا نتلو الآيات السمحاء ، والربيع حولنا يتدحرج من فوق التلة بأنسامه وأعشابه وأزهاره البرية كأنه كان هو الآخر يستذكر ذلك الصديق العزيز الذي تركنا فجأة في أحد الأيام .
الصديق الراحل "رعد مطشر" أحسه جالسا في محله المتواضع تحت فندق الميلاد وقد عوّدني أن يدعوني إلى محله كلما مررت من أمامه وأنا متجه إلى الصوب الكبير ، عند ذاك أعلم أن ثمة عناوين تخص جماعة كركوك احتوتها الصحف التي وصلته وهو يستنسخها لي بعد أن ينادمني على قدحين من الشاي اللذيذ ، أقتعد كرسياً وأنا أسمع منه آخر إصدارات الكتب والأخبار الأدبية ، وأتأمل صور الأدباء الأصدقاء زّين بها جدران المحل وكذلك علّق بعض القصاصات التي تحتوي على نصوص الصحب، وقد تعمقت علاقتنا بعد صدور جريدة (صوت التأميم) بكركوك وخاصة بعد أن تسنم مسؤولية الصفحة الثقافية فيها ، وقد طلب إليّ أن أكتب استذكاراتي عن الصحب في جماعة كركوك .. وبالفعل كتبت أول مقال لي عن الجماعة المذكورة حمل عنوان " جماعة كركوك : ذكريات وتداعيات " وظهرت على صفحات الجريدة الكركوكية ، ثم طلب إليّ أن أكتب عن كل أصحاب الجماعة واحدا بعد آخر ، فبدأت بـ (يوسف الحيدري : الاستذكارات المتجزأة) وظهر المقال على صفحات الجريدة عينها ولكن المقال الذي حمل عنوان : سركون بولص في ذاكرة المدينة الأدبية" حجب عن النشر لأسباب خارج نطاق قدرته. ومن عادة الصديق المرحوم (رعد) الاحتفاظ بكل النصوص التي كنا ندفعها إليه ، وقد احتفظ بالنص المذكور عنده ودفعه إلى النشر بعد تغيير النظام على صفحات جريدة (الوحدة) التي أصدرها وهي أول صحيفة تعانق النور في الوضع الجديد الذي قام بعد 9.4.2003
.. ولا أنسى إعارته لي كتباً أدبية ، حيث كان يترك كتابين في محله أستعيرهما ، وعندما أعيدهما أجد أنه ترك لي كتابين آخرين.. وكانت الكتب نادرة إبان الحصار، وهكذا فتح لي كوىً إلى مشاهد الثقافة والمعرفة وعناق آخر الإصدارات الأدبية .
وعندما أصدر صحيفة " العراق غداً" نشر كتابي المعنون : ولجيد كركوك باقة من أزهار الخباز" على صفحاتها الثقافية مقالة إثر مقالة ، وأنا بدوري ظللت أنشر عبرها الكثير من نتاجاتي الأدبية في هاتيك الأيام.
ترك المرحوم إبداعاته في مختلف الأجناس الأدبية ، ففي الشعر " الغرقى يجمعون المرجان" وفي القص " حلم سمكة" وفي الدراما "خيول" وكتب في نصه الشعري (كركوك) :
سلاما يا مدينة القلعة المدلاة من مفاتيح الأفق
وسوّروك بالترانيم والمسرات
وزرعوا في حدائقك النجوم
فأثمرت قلعتك الموسومة كالتساؤل
وفرغوا في قدميك دورة الكاف الأخيرة
فدعيني يا مدينة البياض
أنشد أغنيتي الأثيرة
فكم من مرة ضحكت،
وبكيت ، ارتعشت ، خفت
كخليج التفاؤل
مناديا إني أحبك :
كركوك
وعندما أمر من أمام محله أتوقف كأن هتافاً يسقط إلى سمعي يهتف بي : أن تعال! التفت لعلي أبصر صديقي ، وأرى بعين قلبي إيقاع سخائه المموسق (يدوزن) كلماته إلى منادمةٍ لم تكتمل بيننا، وقصائده التي طالما حدثني عنها تتقاطر من خلل معصمه ، ترتفع وهي تعلو شجرة الكالبتوس الباذخة ، المنتصبة أمامنا ، تحلق مع طيور الصباح إلى أمداء وآفاق نائية.

قصيدتان

1 – قصيدتان
شعر : أحمد مهدي بيات
هو الأخير واقف كالوتد
في طابور الخبز
صارفا نبضاته كالثمل
إذ ليس في حوزته ما يصرف
لكنه يجيد كيف :
يصرف وقته في التأفف
ويصرف نظره عن التغاضي

2- خريف اليقظة

في غابر السنين
كانت ثمة مغارة تتضبب حباً
تجثو بين كفي جبل يزدانه قمر
فيها غابرون :
يتوسدون أغصان التوت
ويتدثرون عباءة الخضوع ..
وكانت الطبيعة تؤتيها النماء كل حين
زينوا رأس خليلهم بتاج الخنوع
ونحتوا في فكها عينا كعين قط أسود
في كل عام عندما تودع الشمس المغارة :
تصرع كف الشتاء الكهول
ويلتحف كفن الموت العجائز
وحين تنفلق الأرض ربيعا وتبتهج المراتع
ينسل الخليل مع قطيعه من خوف المغارة
يرعى الأعشاب ويقرض الأقشاش

ثم يلمع تاجه بضوء القمر عند المغيب
ذات يوم طاف جن من أدنى الأرض الجبل
فتوارى القمر برقة عن المغارة
قيل له أنه عشق سمكا ورحل معه
ذرِّ الخليل تاجه غاضبا
ودفنه في كف حفيده
نزل الوادي وسار صوب الجنوب
مع هدير نهر ينضح من عروقه عسل القوقاز
كان يحمل على كتفه سلة
فيها درر من التوت والتفاح
تراءى له قمر في حضن سمك يبتسم
فتن به .. لكن القمر عبس له ، والنهر عبث به
أفاق الغابرون وخليلهم مسلوخ عن المغارة
سألوا الشمس عنه فقهقهت وقالت لهم :
أخذته صيحة الغناء فهوى بين فكي النهر
التهمه قرش القوقاز وصار هباء منثورا
وفي قوادم السنين
عندما يكبر الحفيد .. سيترك المغارة
ويزخرف تاجه بندى الزيت عند حافة جبٍ
سيرى من بعيد منارة ..
ينبهر لها ويتكور خلف نافذتها
يجد تحتها سلة جده خاوية من ورق التوت
ستطوقه ريح الخريف وتسقط تاجه في الجب
فيخبو غله .. ثم يلوي سهام ودقه
ويمسي كالتائب يقتفي صراط المشكاة .
نافذة على المطر
كنار عباس عسكر
ظل المطر يتساقط أياما
ظلت تمطر
كانوا ينتظرون أن يتوقف المطر
لم يتوقف المطر ، وظلوا ينتظرون
وظلت تمطر ولم يخرجوا
لم يفتحوا الباب
لم يتوقف المطر ولم يفتحوا
فتحوا النافذة
فتدفق الماء من النافذة
وتوقف المطر
أشرقت الشمس
وطارت الطيور !
· نافذتان
يسقط ظله على الشارع
الرجل الواقف في النافذة
يسقط ظلها على الشارع
المرأة الواقفة على النافذة المقابلة
يسقط المطر على ظل المرأة و الرجل
المرأة والرجل يتبادلان الموت أم الكلام
تمرق سيارة في الليل
ضوءها الكاشف يخترق المطر والأزهار.

صور خارج الإطار


متين عبدالله كركوكلو
1- اللاعب المتجنس

ببساطة هو اللاعب الذي يتحول إلى جنسية الفريق الذي يلعب لصالحه ليكون لاعبا أساسيا في منتخب البلد المذكور ، يحدث هذا حالياً مع الأورغواياني (سوريبا) القطري لاحقا، والبولوني الأصل بودولسكي الألماني لاحقا، والبرازيلي محمد اوليريو التركي لاحقا وآخرون غيرهم. طبعا لهذه الظاهرة سلبياتها التي تنعكس وتأتي على حساب اللاعب المحلي، لكنها ايجابية – على الأقل – بالنسبة إلى اللاعب المتجنس .
الى ذلك سئل ذات مرة اللاعب الأسطورة (دييغو مارادونا) كان ذلك قبيل مباراة بلاده الأرجنتين ضد ايطاليا في مباراة كأس العالم 1986 ، بما انك لاعب محبوب وأساسي في نابولي الإيطالية ، كيف ترد على مشجعيك الطليان وأنت تلعب لصالح بلدك الأرجنتين؟ رغم انه لم يكن متجنساً أجاب :
- أني أحب نابولي ، ولكن الأرجنتين بلدي!
جواب في محله ، ما دفعني إلى الكتابة هو متابعتي لمباراة تركيا مع سويسرا في 11.6.2008 حين بدأ التركي المتجنس في سويسرا (حقان يقين) في تسجيل هدف السبق لسويسرا ، إلا أن عادل (الترك) ثم أضافوا هدف الفوز في الخمس دقائق المتبقية قبل نهاية المباراة. فهل يصح القول أن تركيا سجلت في نفس المباراة ثلاثة أهداف؟
لكنها فازت بهدفين مقابل هدف واحد !!
2- اللاعب المدرب
ثم قدّر لي أن أرى إحدى حلقات برنامج (صدى الملاعب) الذي يقدمه المذيع مصطفى الآغا من على شاشة (MBC1) وقد أثار سؤالا لماذا لا يتحول عندنا اللاعبون إلى مدربين أسوة بالأوربيين؟ على سبيل المثال لا الحصر : الألماني فرانتس بيكنباور ، حمل كأس العالم لاعبا و مدربا، وريدكارد الهولندي ، زيكو البرازيلي وآخرون.
هي عندنا في الأدب التركماني ليست مشكلة ولكن المشكل في تقبل ذلك والاعتراف بكفاءة المقابل ، فالزميل (عدنان القطب) بدأ متطوعا في الهلال الأحمر ثم جنديا مجهولا مكلفا في تحرير المجلة وهو الآن يدير تحريرها ، زميل آخر هو (جلال بولات) بدأ قارئا لجريدة (يورد) ثم محررا في نفس الجريدة ، إلى أن أصبح كاتبا دائميا وعضوا في هيئة تحريرها ، وبعد تحول (يورد) من جريدة أسبوعية إلى مجلة رأيناه يقرأ ، يكتب ، يترجم ، يصمم ويخرج المجلة بهذا الشكل الرائع ويحرر وهو الآن رئيس تحريرها . (سامي توتونجو) بدأ هو الآخر قارئا فنشر بضع خوريات في مجلة الأخاء ثم (يورد) ليرتقي الآن إلى رأس مجموعة (ايشيق) الأدبية وصاحب امتياز مجلتها ، محمد هاشم صالحي هو الآخر بدأ شاعرا متواضعا ثم كاتبا ، وقد أوصل اليوم جريدة (شفق) الذي يرأس تحريرها إلى عامها الثاني بنجاح وتفان.. وإلى هذا يجب أن يطمح أي قارئ ، وكلاعب إلى التدريب أو إدارة الفريق مع الأخذ بنظر الاعتبار أو الإقتداء بالتجربة الهولندية في كرة القدم (فوتبول توتال) اللعب الجماعي الشامل!
3- أوربا تلعب
من حقها – أوربا – أن تلعب ، أن تتسلق الجبال وتتزحلق على الجليد وتطير في الفضاء .. من حقها كل أنواع الترف لأنها لا تلعب بعد عمل دؤوب وتنظيم رائع وتفان منقطع النظير.. أوربا التي عملت من الإبرة إلى الايرباص.. فلعبها وترفيهها جاء بعد عقود من المكابدة والمكاشفة ! فلماذا نرى اللعب كثيرا على أوربا العاملة !
وما ضرب المثل بالخضيري الذي يلعب على ضفاف الشط بعد رحلة عناء شاقة بحثا عن حبات الرزق. تعالوا نجرب اللعب بعد العمل ـ فلا لحظة تضاهي لحظة الفرح عندما يقبض العامل أجرته.
خصوصا إذا كانت الأجرة من جنس العمل.. فلندع طول الأمل .

أحلام وردية
فريد الهرمزي


· الـمحال
قالت :
- كم عنيد أنت يا حبيبي ..
- لست عنيداً ، ولكني لن أرضى أن أكون لعبة بيديك ..
- إن لم تطاوعني سأصهرك في أتون حبي ، وأعيد صياغتك على هواي ..
- لن تتمكني ، لأن معدني من النوع الذي لا تصهره حتى القنابل الذرية !
· تأمل ..
- إلم تنظرين ؟
- أنظر إلى القمر !
- ولم لا تنظر في وجهي يا حبيبي ؟
- إني أتهيب من النظر في وجهك الفتان ، فأنظر إلى القمر لأني أرى وجهك في القمر !!
· صفر ! ..
- كم يساوي 1+1 ؟
- بلغة الرياضيات = 2 .. أما بلغتي أنا فلا يساوي شيئاً، فسيان عندي 1+1 أو 7+7 أو مليون + مليون .. فالنتيجة في النهاية تساوي صفر !!
· حيرة
رأيت بأم عيني صبيا ممسكاً بيد شيخ ضرير وهما يعبران الشارع ، ولكن الذي لفت نظري بل واستغرابي أن الضرير هو الذي يتقدم الصبي في الخطوات ويقوده، فحرت في أمرهما .. ترى أي منهما هو الضرير؟!!
· ســرقة !!
- انتظرتك طويلا طويلا لنلتقي ولكن هيهات !! فقد سرق الانتظار عمري !
· القلم !!
في يوم ما جاءتني فكرة أردت تدوينها فطلبت من ابني محمد أن يناولني قلما ، فلما قدم لي القلم قال لي باستحياء بالغ :
- ولكن القلم في يدك يا والدي !!
· نسخة طبق الأصل
قال لها : لو لم أعرفك لخلقت نسخة طبق الأصل منك في مخيلتي و وجداني !!
· " فاتنة الدنيا وحسناء الزمان "
منذ أعوام بعيدة وأنا أسمع العظيم عبدالوهاب يغني في مقطع من أغنيته الرائعة " كليوباترا" ؟.. هذه (فاتنة الدنيا وحسناء الزمان) !! ويومها كنت أتساءل أتوجد امرأة بهذا الوصف ؟ " فاتنة الدنيا وحسناء الزمان " وكيف تكون يا ترى ؟ إنها حتما من نسج خيال الشاعر الأنيق الكلمات علي محمود طه . وظل هذا التساؤل بلا جواب إلى أن التقيتك فأجبتِ عنه أبلغ جواب دون أن أسألك فأنت والله " فاتنة الدنيا وحسناء الزمان " !!

قصص قصيرة جدا هشام القيسي

مفاجأة
من يبقى واقفا يركض أكثر من نار تلصق على الجدران عينين من صور لا تنهار. عندها غادرت عيناه في أصوات لم تتكلم، وكانت أزهار البراري كلها مائدة للماضي . فكر قليلا وقال :
في كل كلمة علي أن أزيل الصدأ ، وأتمدد من ساعة الى مسافة أخرى . حين أحصى نفسه كان كل شيء مرتبط بمكانه .
الثمل
ابتعد عن الحفرة فهي توقض محنة قديمة لا تنام لديه ، وتستغرق في التأمل أو تتسرب ملتهبة كخمرة خارجة من ممتلكات الرغبة. في تلك الواقعة ذكريات ختمت دالات في الليالي الماطرات . كان يتقبل الأمل والحب ويعطي أسماء غريبة للسيدة .
حينما أفاق كان الليل خارج الحديقة، والمصابيح لا ترمي عشقها على الأشجار، حيث أسدل الليل سدوله دون أن يترك لساعته دقيقة يحدق فيها .
عاشق
كان يتلفت ويكسر غصنا . إذ ينزل الى الماء يغرق في موجة تحمل رسالة من أشعة حبيبته إليه .
حين حل المساء لم يبق أحد على ضفة النهر . نظر نحو داخله ، وقال :
تركتني في هذا المكان وحيدا .
رجل ميت
حيث يبحث عنها في الصباح ، يفقدها في المساء . لم تكن في مكان يصل إليه ، فقد عاش العمر في كنف نجمة لا تحدث ذاتها . رطوبة الجدران، تكراره في سبيله، إنقضاء الأيام دون غضب أو إندهاش، كان يهوي الصمت لكن الصوت يسحبه من النوم . تذمر ، تمتم ، حيث يضع العمر أوراقه الضائعة ، وأدرك ان في يديه الفارغتين بقية من فراغ لن يفهمه أحد قط .

يقين
النوافذ منحت هواجسا محجبة هاجمت الأحلام . شواطىء العتمة لم تعد ترفع الأشعار ، وسقطاته في الأرض لم تنفذ الى غيره . نظر الى حدود خرساء ثم إنسحب ليمشي في حديقة الذاكرة .

من الأدب الكوردي الكلاسيكي


الطارق ... !

شعر : الشيخ نوري الشيخ صالح
تخميس : أحمد هردي
ترجمة : محمد زهدي إبراهيم

لا تعذبي قط أرواحاً أضناها سهر الليالي
لا تجابهي أمواج دموع تنهمر في عتمة الليل
يا بنت آلهة الجمال ، يا سراجا في خيمة الليل
(احترسي من آهات جريحي القلوب إن تظلموا)
(أخشى أن يستجاب دعاء المظلومين في الليل)


أنا تائه لفني الظلام ، وطريقي مفروشة بالمحن
أتظلم ولا معين لي ، وأتحسر على موتي
أنا قيثارة في مهرجان الليالي، وحرقة في كبدٍ متهرئ
(مرافقي ومحبي وأنيسي دموع وحسرة)
(ألا بارك الله فيك أيتها العين الباكية في الليل)


لا تظني أن الهم يمحو شوق ذكراك من قلبي
وبكائي دماً يثبت صدق ما أقول
يا أخت روحي لقد صرعت السهيل ببريق عينيك
(يغدو القلب دماً ينثال من عيني )
(كلما أشتاق إلى لقياك في الليل )


رب سائل يسألني : لم تبكي وأنت في عنفوان الشباب ؟
ألا تدري أن عنفوان الشباب عنفوان المرح والعبث ؟
أقول : إن المرح والعبث من نصيب السعداء
(أما التعساء فنصيبهم دموع وحسرة )
( وما طل الصبح إلا بقيا من دموع الليل )


حاولت الافلات من فخ شعرك العديم المروءة
كي أضع حداً لعذاباتي ومحنتي
قالت : عبثا تحاول إن هذا الفخ مقامك مادمت حيا
(صعب منجاك يا " نوري" من هذا الشعر المعقود بالهم )
(من المحال أن يتخلى الشهم عن طارق في الليل)

بغداد - سجن أبي غريب
26.10.1986
الطارق : النجم المضيء ، أو الذي يطرق الباب ليلا لحاجة ما..

العافية تلتمس طريقها إلــى مسرح كركوك

متابعة : لهيب خليل
بعرض درامي حاول الوصول لقمة الفخامة قدم لنا المخرج رائد حازم عملا مسرحيا معد من مسرحية (كاليغولا) لأديب العبث ألبير كامو، المسرحية وبرغم عرضها على قاعة النشاط المدرسي التي بالكاد نستطيع أن نسميها خشبة مسرح ذلك لأنها تفتقد لكثير من مقومات المسرح الحديث وأولها قضية تقنيات الصوت ورغم التطور الحاصل في مجال التقنية الصوتية إلا أن القاعة تفتقر لها ناهيك عن تقنيات الإنارة الحديثة، وبرغم ذلك حاولت المسرحية بان تسرب شيء من العافية لمسرح كركوك المسرح الثري بعروضه الجادة في السابق فقد كانت كركوك سباقة في تقديم العروض المسرحية الجادة كعرض جماهيري والقصد هنا إن مهرجانات التربية التي تقام في المناسبات والمهرجانات السياسية سابقا ولاحقا وعندما يقدم من خلالها أعمال مسرحية فهي لا تخرج أولا عن طابع المسرح المدرسي ومن ثم عن سياسة منظمي المهرجانات ، كاليغولا هذا العرض المسرحي بكل حسناته وسيئاته أعاد للأذهان وللمهتمين ذكرى المسرح الذي كاد يموت تحت صمت وقسوة القائمين عليه أولا والجمهور ثانيا ، لقد فقد المسرح بعد المحطات الفضائية علينا لان المسح يبقى دوما المقياس الأول والأساسي في تقييم أية مجتمعات المسرح الظاهرة الصحية الفكرية التي نستطيع من خلالها أن نحكم على ثقافة مجتمع ما ومدى تطوره ، ورغم البسيط الذي قدمته المسرحية ولكنه بسيط عميق وبسيط بقوة فهي إذ تحدثت لنا عن طاغية حكم روم القديمة بسادية ووحشية فهي بذلك تذكرنا بان لا مكان للطغاة إلا في المزابل، فلقد نجح المخرج والمعد رائد حازم إلى حد ما أن يفك شفرات العمل المسرحي، فمسرحية كاليغولا عمل صعب ومن الصعوبة جدا تناوله وتقديمه على خشبة مسارحنا فهو يستعرض الحياة الجنسية المريضة والمقيتة لحاكم مثل كاليغولا ، وبما إننا من المجتمعات التي لازال الانغلاق يحكمها فأن تقديم عمل مسرحي تشوبه القليل من الإباحية يعد ضربا من المستحيل، لذا اعتقد أن أكثر النقاط المحسوبة على العمل سلبيا كانت هي ضيق المساحة الاجتماعية التي أراد العبور منها المخرج ورغم هذا وذاك فلقد تألقت الممثلة (إيناس خالد ) في لعب دور المحظية الشبقة وعن جدارة استحقت التصفيق للجرأة التي أدت بها الشخصية ورغم تقنية الصوت وإيصاله إلى أخر متفرج في القاعة (رغم إني كنت جالس في الصف الثالث ) فقد نجح الممثل(طارق ناصح)في تمثيل دور كاليغولا ولنعرف جيدا أن تشخيص واستيعاب شخصية مثل شخصية كاليغولا ليست بالأمر الهين والبسيط فهي تنتمي لصنف الأدوار المركبة والمعقدة . رأي أخير وهو لو أن المخرج استعان بكورال لسرد بعض الوقائع التاريخية التي صاحبت تلك الفترة الزمنية لربما استطاع توصيل أفكاره بشكل أفضل وهذا رأي أسوقه وأقول لربما. بوركت كل الجهود التي تظافرت لتقديم هذا العمل وتحية احترام لكادر العمل جميعا لأنهم أعادوا فعلا شيء من العافية والابتسامة إلى مسرح كركوك كمسرح جماهيري متاح لكل الفئات والناس.
أحرف من نار
عامر محسن الربيعي
ضميني بحنانك
حاصريني بلهيب المشاعر
اليوم أريد إشعال الدنيا
بأحرفٍ من نار..
* * *
انفخي في رماد القلب
أعيديني إلى الحب
أو ذريني للريح
تحملني غيمة دخان
ملبد بالسحر..
* * *
أيقضي سبات الهم
املئي أيامي صخبا
ماعد يقنعني
سكون القلب
ولا صرخات العيون
يوم التلاقي..
* * *
بريدُ حُبك الأخضر،
يرفض الاحتراق
بنيران غضبي..
كلماتك المنغمسة بالشبق واللذة
تتخندق في الذاكرة
تأبى إلاّ احتلالي
تتشدق بجارف الشوق
وأنا المختال بالفراسة
لم أقرأ ما خبأته خائنات ألأعين
من أسطر الغدر المنمق..
* * *
ترتحل أماني العمر
لحظة غضب
يتباكى الندم
نادباً صدق المشاعر
مستلهماً زيف الغرور
متحججاً بالقدر..

تقاليد
شعر : سعد الساعدي

1. تَحفُّظ
حَبيبتي..
إذا علَّبتكِ العائِلةُ
فأنا مِنْ الموادِ الحافظةِ للتقاليدِ..
2. قبلة
كيفَ سأحبـّكِ
وخدُك لا يتسع لقبلةٍ أُخرى!
3. شـــك
لا تجهدي نفسكِ حبيبتي..
فالصمت لا يعني إنكِ صامتة..
إنما يعني..
إنك تفكرين بي
دَومـاً !!
4. فقط
لايوجد سواي
وأنْتِ..
والغيوم الملبدةُ في جَيْبِ سترتي
عزائي إليكَ
أيها المطرُ..
5.مــزاد
رأسُهُ ملكٌ للجميع
قلبهُ مباعٌ لحبيبتهِ منذُ جرحٍ قديم
هـم.. مبحرونَ فوقه
هو.. غارقٌ بجبنهِ
لذا مَنْ يشتريهِ مجاناً!
6. صفـعـة
صفعَ جبنهُ لشجاعتهِ
وربما مِنْ غيرِ الإعجابِ
قالَ لصديقتهِ:
اُحبّكِ جداً..
وفَقْدَ ذاكرتهُ!!
7. قِران
عليكَ أنْ تكونَ عاقلاً
لتتزوج..
أحذر ... أيُّها المجنون!!

لماذا ؟

قصة : لهيب خليل

ليث من عائلة طيبة ومعروفة في المحلة بل وأكثر الناس يعرفون أبا ليث رجلا مستقيما (كلش دوغري) لا يعرف إلا الصراحة ويخاف الله . لا يفته فرض ولهذا ربى ليث على هذه القيم والأصول فهو دائما يقول لابنه لا أحب الدروب الملتوية! إياك وبنات الجيران، حذار! أن أراك واقفا على السطح بحجة ما وخصوصا أوقات العصرية لان فتيات الجيران يكونن في هذه الفترة على السطح للترويح عن أنفسهن، أو لترتيب الفراش أيام الصيفية . لا ينفك ولا يمل أبو ليث من ترديد وإطلاق تلك التحذيرات، إياك أن تقف وتتحدث إلى بنات المحلة. أبنائي لا يتكلمون مع النسوان ثم الوقوف مع الفتيات شيء مخجل . ماذا تريد من الفتاة وما الذي تريده الفتاة منك؟
المرأة كائن ضعيف ومقرف ويقول الكلمة الأخيرة بصوت خافت خصوصا بحضور الزوجة . ليث حفظ تلك الدروس وتشربها نقطة فنقطة. لكن ليث كبرت سنوات عمره وفي احد الأيام زارته جارتهم العجوز في الحلم فاستفاق من نومه وهو يلعن الشيطان. وبعد أيام أخرى زارته بنت الجيران التي انتقلت إلى المتوسطة أخيرا في حلم الظهيرة هذه المرة. أقلقت الأحلام ليث لأنه لم يكن يعرف ماذا عليه أن يفعل بالضبط . استنجد بأمه وحدثها عن تلك الكوابيس. ابتسمت الأم وقالت له :
-لا تخف يا ولدي ، اقرأ بعض الآيات من السور القصيرة وستنام بكل راحة وأمان.
ليث صار ينام مرتاحا أشهرا عديدة . لقد عمل بنصيحة أمه لكنه اكتشف أمرا خطيرا هذه المرة ، فهو بين فترة وأخرى يتحسس شيئاً شديد اللزوجة على ملابسه الداخلية، وأخفى الأمر لأشهر عديدة . وعادت الأحلام تزوره في كل الأوقات . توجس خوفاً هذه المرة وراح يحكي لأبيه كل ما جرى وهو يتنفس بصعوبة بالغة، كمن يدلي باعترافاته. الأب الذي بدت عليه أمارات الغضب أمره أن يدخل الحمام فورا ليغتسل غسل الجنابة . وبعد شرح مستفيض عن معنى غسل الجنابة دخل (ليث) الحمام ودلق على نفسه الماء حسب التعليمات التي تكررت ، إذ كان الوالد يلقن الابن من خلف باب الحمام . مرت الأيام مسرعة و(ليث) يغتسل في الأسبوع الواحد خمس مرات غسول جنابة ، لأنه لم يعد يطيق الانتظار أن تزوره الجميلات في الأحلام ، بل هو الذي يمضي في حلم وقتما يريد، بعد ان يختار بطلة حلمه كلما رأى بنات الجيران وهن على السطوح يمشي ويتقافز كقط مطارد. فقط شيء واحد استعصى على فهمه ففي كل الأحلام التي تزوره ويزورها كان يحاول .... ........ ..... لماذا ؟ لم يستطع أن يجد الإجابة.

غربة المنية

شعر : محمد خضر محمود

سيدي
احمل جواز مرور
نشر أكفاني
على بوابات التاريخ
موتي مجهول زاهد
نضحته النيران
لتنبت الخصب
فتحبل الآثام
صلاة لا طلال النفاية ،
نحرق البتولات ببركان الجليد
نروي القبور بنار تشوي رفاتنا
كي تهدى قربانا للآلهة
نصلي..
والكفر الأزلي يطاردنا
ريح تمارس دورة الخليقة فينا
تسقط القباب
تدنس العذارى
تغرق النجوم بالمياه
تنتشر العتمة
ازدهرت القذارة ...
صمت البخور
أميرتي أمنة هانئة
رقيق كومضة البرق
لها لوعة ترعاني بالأمل
جامحة أشواقها
أحضانها دافئة
هي معبودة العشق
بعد نار الفراق
ورث الحب الأزلي
اجتازت به قمم التاريخ
واستراحت بفؤادي
لكنها خائفة من شيء ما،
وبصيص شعاع حبها
يلتهمني بصمت البخور
الذي عَطّر الشمال
بأمطار ثلجية ساخنة
تخمد بركان العشق المنهوك
بحبها الشامخ
العاشق الموؤد بشرارات الفتن الدائرة
تحت ظلام السقم بقبة خضراء خرافية.

2008/10/05

كلمة العدد 14

بعد 25 شهراً من تاريخ صدور أول عدد من مجلة يورد استطعنا أن نصدر العدد الرابع عشر ونحن نخطو بكل ثقة وثبات أول خطوة على أعتاب السنة الثالثة، وخلال هذه المسيرة واجهتنا العديد من الاتهامات الرخيصة والتقولات الباطلة التي كانت في الغالب تستهدف عزيمتنا أو التقليل من شأن يورد – الوطن وقد كان العديد من أصدقائنا الملتفين حولنا ينصحوننا بألا ننجر إلى تلك السجالات التي كانت تولد في الغالب وهي عقيمة، ونحن نفهم أنها محاولات تهدف إلى إبعادنا عن فضاء الإبداع صوب حقول الجدب التي أوجدها البعض لنفسه في الحقبة الذهبية من عصر القيل والقال الذي نعيشه رغما عنا، حتى صار البعض يتصورون أن تدبيج المقالات اللاذعة التي لا يخلو أي سطر فيها من النقد الجارح المغلف باعتناء متناه إنما هو الإبداع بعينه ، ولا يدري إن من يرتضي سلوك هذا الدرب أنما يفعل ذلك وهو يقدم دليلا دامغا على جفاف أدبي وخلقي مؤسف . والطامة الكبرى هي أن يتوهم هذا بأن ما يقوم به هو ضرب من النضال أو البطولة ويستحق الثناء من رؤسائه.
في الحقيقة لم نكن ننوي خوض مثل هذه المواضيع ولكن مساحة الممنوع والمسكوت عنه فضلاً عن الكتابات التي تطالعنا بين الحين والآخر هي التي تدفع حتى التماثيل الصم إلى النطق ! ولكن نود أن نذكّر هذا الجمع الذي كانت تربطه في السابق علاقات حميمة وصداقات صميمية للغاية ، حتى تحول الأصدقاء والرفاق القدامى إلى غرماء يحاول كل واحد منهم النيل من الآخر. فما الذي حدث!؟ الوسط الأدبي والثقافي هذا هل ضربه زلزال بدرجة (5.1) على مقياس ريختر لينقلب كل شيء رأساً على عقب !
هذا الخراب الأدبي والثقافي لا يمكن أن يتصوره العقل ما لم يكن قد خلفه طوفان أو زلزال ..
نتساءل ما الذي يمكن أن نقدمه من أجل السلام ؟
كيف لنا أن نرفع الحواجز والمتاريس التي وضعت أمام الأفكار وأمام وجهات النظر المختلفة !؟ ألم يحن الوقت لكي نؤثث سلامنا الاجتماعي ونتقبل بعضنا البعض في هذا العصر الذي كثر فيه الحديث وتشعب عن اتفاق الحضارات وعن نظريات مشابهة.
إنها دعوة لوضع حجر أساس لثقافة السلم والتعايش مع الآخر ..
نحن نؤمن أن ثقافة السلام ستجلب وإياها الكثير من المكاسب لنا.. إنها دعوة مخلصة مرفقة بباقة من الأزاهير من أجل مناقشة هذه الأفكار والطروحات واستنباط الحلول ..
نحن في يورد نذرنا أنفسنا لتحقيق هذا الهدف والسعي من أجله ..
ومن أجل ذلك نقدم للجميع باقة من الورد مع المحبة ..

رئيس التحرير

الشاعر رضا جولاق أوغلو

و مجموعته الشعرية نشيد السلام

كتابة : أنور حسن موسى
منذ الستينات تنازعت مجموعتان أدبيتان على الصعيد الثقافي ، وحاولت كل مجموعة أن تستأثر باهتمام النقاد والصحافة وهما (مجموعة الثقافة الإنسانية) و(مجموعة الثقافة البرجوازية).اهتمت الأولى بتراث الشعوب والمفاهيم ذات النزعات الإنسانية القائمة على الحب والتعايش والعدل ، بينما اهتمت الثانية بالغموض والمبالغة بالفردية قوضت الجوهر الإنساني للأدب ..حاولت المجموعة الأولى التوجه نحو قطاعات واسعة من الشعب ولهذا حظيت باحترامهم، أما المجموعة الثانية فإنها خاطبت أقلية من المثقفين المولعين بالميثولوجيا القديمة والرمزية .على ضوء هذا الصراع بين المجموعتين تجلت غربة الشاعر البرجوازي عن الشعب بينما استقطب الشاعر الإنساني الواقعي اهتمام الأغلبية من القراء الذي يتوقون إلى قراءة كل ما يعبر عن واقعهم وتصور المعني النضالية في دأبهم وكفاحهم ضد كل ما يعيق البناء والنهوض وتحقيق العدل في مجتمع قائم على الظلم والاضطهاد. الشاعر(رضا جولاق أوغلو) في مجموعته الشعرية (نشيد السلام) يؤطر شعره ضمن مجموعة الثقافة الإنسانية فهو غير مغرم بالميثولوجيا القديمة بقدر ما هو مولع بميثولوجيا أمته ..انه يقيس زمنه ومكانه حسب تقاليد بلده تماماً كما فعل الواقعيون ..الشاعر جولاق اوغلو يريد أن يلعب دوراً تقدمياً في حياة شعبه وهو بذلك لا يريد أن يقول إن كل ما هو تعليمي وهادف بائس وفقير على حد تعبير(ت.س.اليوت).
إني حسب معرفتي الشخصية بالشاعر فانه رغم اهتمامه بالثقافة الأوربية مغرم بثقافة أمته وميثولوجيا شعبه، وانه تمكن بجدارة من تقليل التأثيرات الميتروبولوجية في شعره، وتوجه نحو الثقافة القومية يرفدها ويغذيها وينعش المعاني الإنسانية فيها. وانك حين تقرأ مجموعته تحس في الوهلة الأولى بحنين الشاعر إلى الأبدية ..هذا الحنين الذي ينبع من إيمانه بأصالة القيم والأخلاق الكريمة التي امن بها البدائيون ومارسوها في حياتهم فهو يدعونا إلى الاتفاق معه بان الأسلاف كانوا أفضل منا لأنهم كانوا مخلصين فرحين شجعان يعٌتمد عليهم ،بينما نحن المتمدنون فقلة قلية منا يتصفون بهذه الصفات ، ولعل جولاق أوغلو من أولئك القلة القليلة.
أما المفهوم الثوري للشعر لدى جولاق أوغلو فهو يتجسد في رفضه للمنطق البرجوازي للثورة الذي يفصل بين ثورة الشعر والإنسان .. انه يدعو إلى الحب والصوفية الحقيقية والتوازن والتواضع والصدق مقابل البغض للهلوسة والتعالي والادعاء ويقول إن الحب الحقيقي لا ينبع من خلال المثالية الكاذبة، الحب في نظر الشاعر هو الحب الذي يجيء مع الثورة ولا يرفع رايته وسط الخراب والفوضى ..انه يدعو الشعراء إلى الابتعاد عن حضيرة السلطان ويدعو في أكثر من قصيدة في مجموعته، وهي تضم أكثر من ثلاثين قصيدة الى نبذ العادات والتقاليد البالية التي تتحكم بالمجتمع ، ويرفض الأنانية وكل صفات الرذيلة .
شعر جولاق اوغلو وان كان لا يساهم في خلق ثورة شعرية الا أنه يدفع بالشعر الى خندق آخر وهو الخندق الاجتماعي ..انه يخلق ثورة اجتماعية وسياسية شاملة .إذن مفهوم الثورة في الشعر لدى جولاق اوغلو هو (أن الثورة لا تلغي دور الشاعر والشعر لا يلغي دور الثورة)..
شعر جولاق اوغلو يمتاز بجمال الوزن والقافية والموسيقى (موسيقى اللغة) إضافة إلى استخدام الميثولوجيا الشعبية والأساطير بلغة تركمانية عصرية نقية لا عن طريق تحويلها إلى أبيات نثرية ، بل الإشارة إلى أسمائها أو مضامينها وتوظيفها توظيفا موفقاً لتكون أداة تغييرية بيد الشاعر، يهدم بها البناء الاجتماعي المغرق بالرجعية والتخلف .
لقد اختار جولاق اوغلو ان يقف مع الآخرين ليحرق معهم ، ولم يقف مثل غيره على (الضفة الأخرى) ليستغرق في (الصلاة الكهنوتية)لان ذلك ليس من صفات أي شاعر حقيقي تحت أي مسميات... لغة الناس ،ولغة أهل الشاعر هي قاموس جولاق اوغلو الشعري فمنها يستقي كلماته الشعرية الزاخرة بالمعنى .. انه في شعره يقترب من مفهوم (ووردزوث) للغة الشعرية الذي كان متحمساً لــ (لغة الناس ).
انظر الى الشاعر في قصيدته الأولى (الغيوم) كيف يتحدث عن الغيوم التي تتجمع في سماء وطنه ولا تنس إن المجموعة قد نشرت في زمن الاضطهاد، فبعد أن يعدد لنا مراحل نشوء هذه الغيوم ،ورحلتها الطويلة وطوافها الواسع في الكون يقرر بأنها تحمل لنا البركة والخير والسعادة كأنه يذكرنا بمطر السياب إذ يتنبأ بقيام ثورة 14 تموز الخالدة .
ولنلق نظرة على قصيدته (الجهود المضنية )التي يشيد فيها بالنضال الدءوب للشعوب من اجل نيل الحرية ، ويعري أولئك الذين يتقاعسون عن النضال الفعلي ويكتفون بالحديث والسفسطة عن الثورة والخلاص فيلاتهم البرجوازية، وعلى متون سياراتهم الفارهة، وفي حفلاتهم و عربداتهم ... وبين دخان سجائرهم الغالية الثمن في المقاهي والبارات (بتوع نضال آخر زمن في العوامات) كما قال الشاعر المصري (احمد فؤاد نجم) وكما وصفهم نجيب محفوظ في معظم رواياته. ها هو الشاعر يقول :
(يقال إن من لا يشمر عن ساعده
ويفتح صدره للرماح
وينازل الموت في ساحة الوغى
لن يذوق طعم الحرية أبداً ).
يعتبر الشاعر رضا جولاق اوغلو من أكثر الشعراء التركمان تعلقاً بالشعر فهو يكاد يتنفس الشعر .. لقد كنت أراه دوماً في سجن أبي غريب أثناء زيارتي لشقيقي المسجون معه ..كان حين يلتقي بي أول سؤال يتبادر الى ذهنه هو: ها صدر العدد الجديد من جريدة – يورد-الوطن ؟ وإذا قلت له نعم يظل يسألني عن القصائد المنشورة فيها وعن أصحابها ، ولا يمل من السؤال ، وكان يتابع ما ينشر من شعرنا وهو في السجن ، ولقد حدثني كثيراً عن أشعاره، وعن ملاحمه الشعرية التي تربو على مئات الأبيات، وحدثني عنه أحد أقاربه من تلعفر وقد جاء لزيارته إن الشاعر الكبير المرحوم (فلك اوغلو) قال مرة : انه سلم راية الشعر في تلعفر الى رضا جولاق أوغلو.

يالجين بللو


و رحيل آخر نورس من أصدقاء المطر
( كن عراقياً ...لتكون شاعراً )
محمود درويش
بقلم : تحسين ياسين

هذا ما يتمناه الكثير من غير العراقيين ، وهكذا كان الكثير من العراقيين شهداء وشعراء ، وبذلك قد نالوا الشرف الرفيع وسلموا من الأذى حتى راقت على جوانب البلاد دماهم . فكان أبن بللو يالجين أحد هؤلاء ، إنه آخر نورس من أصدقاء المطر والسنابل وآخر شاعر من أخوة الرعد والنرجس .
حياة قصيرة – طويلة عشق فيها صوت المدينة وهطول الأحلام كعشق النوارس للمرافئ ولمجيء البواخر ، قصيرة بالسنين وطويلةٌ بالأحزان والمواجع ، قصيرة كالتوقيعة الشعرية ، كحلم طفل وطويلة مفزعة كالكوابيس . كان لا يفكر ألا بصوتٍ عال أشبه بالصراخ لأن الضجيج من حوله كان يحاصره ويطعنه من كل الجهات ، واكتظاظ الأفواه نسج بفضائه خيوطاً متشابكة حائرة فأستطاع أن يحيك بعدها ثوباً أزرق لحلمه الذي تعب من الطيران دونما أجنحة ، هذا الحلم الذي يجوب السماء بأمل وفرح ، ثم يرجع إلى رأسه الذي ليس له جدران ، فالأحلام البيضاء لن تدخل رأساً تحيطهُ الأسوار ، وحلمه الصغير هذا بسيط وصعب في آنٍ معاً .. إنه يتعامل مع المطلق بتناوله للأشياء ومثالياً في ممارسته لحلمه :
لي حلم ..
يطير دونما أجنحة ..يجوبُ السماء ..
بأملٍ وفرح
بعدها ..
يرجع إلى رأسي
الذي ليس له جدران .
هذا الحلم لطالما راوده فألتقطه في غطسته الأولى بأعماق ذاته ولطالما نشر على خيوطه أسرار ذاكرته المعتقة بالأزرق والتي تتدلى كبندول ساعة قديمة لتدق كلماته في صفحةٍ من ديوانيه الاثنين معلنةً عن بدء رحلة زوارقه الشعرية وقد رافقته في رحلته تلك نوارس روحه البيضاء .
هكذا كان حلمه يرقص مع إيقاع ليله ، وأمله أن تطلي النسوة شفاههن بالأزرق محاولاً استفزاز آذانهن بصوت نوارسه كي يعمق لون الأزرق في مخيلة القارئ ويقرب الإحساس به عبر مشهده الدرامي . وكما قلنا أن صوته كان عالياً يحاولُ دائماً ملامسة زرقة السماء تارةُ والبحر تارةً أخرى . لكن طبلة أذن الزمن مثقوبة عند الآخرين يسيل منها الصمت والشتات والحيرة .. هكذا كان يخال على الأقل . أراد أن يقول للآخرين أن القبلة الأبدية تبدأ بشفتين صغيرتين وبعدها بوسع الروح أن تهيج مع تلك الأمواج الثائرة.
نعم ومن يقرأ ديوانيه يتحسس انه ثمة خيطاً أثيرياً أزرق أراد أن يربط به تأملاته وما كانت ألا روح أبن بللو يالجين ، فكان يسحب به طائرة الشعر الورقية كطفل يركض بألقه نحو قوس قزح غده الذي ينتظره .
فبعدما لملم شظايا سنينه وزفراته واختزال أصوات حيواته الداخلية والتي تصرخ منذ أمدٍ في ذاته ، ليهتف عالياً وبلسان الجميع ( أنا هنا) أنه هناك بين تلك الأمواج الثملة ، وقد رجع بنا الصدى إلى مناخات (ارثور رامبو) و (مركبة السكران) . نحن هنا صرخها في وجه النظام آنذاك وببراعة أصاغ نصوصه ، نحن هنا رغم أننا متروكين في هذا القبو الذي هو العطش الروحي والعقائدي في الوقت الذي كان الكثيرون ينسجون تحت جلودهم رافعين راية الشحوب . فأسس بذلك لحزنه وللغته صرحاً عبر قصائده مسجلاً موقفاً جلياً .
وكذلك كشف أسرار الرحلة في ( العربة الثانية ) بديوانه الثاني والرجل الذي يجلس فيها هو الذي جعلنا نشعر بزفير القطار ونتحسس أنين عجلاته التي تدور وهي تصارع السكك ، كأسنان رجل تصطك هلعاً من الرحلة المجهولة . أي حزن كان يلفك أيها المتحررُ من دائرة المستحيل ، وأي صوت هذا الذي يحاول تزيين وجه الرحلة الضبابية !! فالأرض كانت قاحلة والقافلة التي تبدو في الأفق محض سراب ، لكنك دائماً كنت تؤمن بأن :
(الصمت خوف أخر
للذين لا يتقونه ) .
أيها الحاكم أبداً بنهر الطفولة والذي طمرته مخالب غربان موسم الهجرة وعيون المدينة الناعسة والتي ما زالت مكحلة بك ، وقد تجمدت على رموشها المتعقبة آلاف الدموع ، ووجهك اليوم يعانق (وجه السماء) (كم هي مقدسة / زرقتك أيها البحر / صباحاتك تداعب الشمس / ولياليك / تعانق النجوم ) وأي إيمان بقدسية الأزرق فالصفة والموصوف هنا مقدسان لديه من وجهة نظرته الثورية ويقينه العقائدي ، فعملية الإسقاط التي تحدث للشاعر من لا وعيه هي كشف مكامن الذات البشرية أو كما يسمى بالحداثة الشعرية وأيمان الشاعر اللاواعي بالأشياء ، فتنبؤه بالرحلة الأبدية قد سقطت من لا وعيه في هذا المقطع الأخير من قصيدته (أنا هنا) :
صرخ نحو الأعالي ...
أغيثوني أنا هنا ..
وئدَ نفسه
داخل موجة البحر الثملة
رحلتنا ستمضي إلى الجحيم
دونما توقف
هيا معي يا صديقي
فقد أستطاع لاوعيه وثوريته الذاتية أن تتغلب على محيطه الخارجي البعض نظر إلى مملكته الشعرية من الخارج ولم يلق بنظرة فاحصة إلى الداخل ولم يتحسس الروح التي تسكنها ولم يسبح في فضاءآته . فكانت نصوصه ثورية تحررية تنبع من أرثٍ استطاع المحافظة عليه حتى آخر لحظة من عمره الشعري . ومن يتعامل مع لاوعيه الشعري بمنطق الواقعية فأنه يقع في خطأ فادح . فلم تخلُ حياته من صهيل القصائد ومعانقة القمر والذي رآه يوماً في رقة نهر طفولته (المدينة) فكانت الغربان تترقب وما أن نامت عيون المدينة حتى أنقضت عليه وطمرته بمخالبها تاركةً غبار طفولته وعشب ذكرياته تأخذها الريح رويداً رويدا . لقد أغتيل نهر المدينة والذاكرة فجأة مثلما أغتيل الليل وسهرات المواقد القديمة الدافئة والكثير من الاعتبارات ، كل هذه الأحباطات والمفاجآت بمحيطه قد لعبت دوراً في سنينه الأخيرة ، ورغم ذلك فقد تمكن بإصرار أن يستمد من أمطاره ابتسامةً لمواجهة جيوشٍ من الأحزان والمرارات الجرارة والتي حاولت محاصرته فخابت ، لأنه كان يسكن الرعد ، وقد تجلى كل ذلك في قصائده ، فالرجل بقي ثابتاً بموقفه إلى حد الحيرة والدهشة . ففي كل مرة تتلاطم أمواج البحر صدره تاركة لونه اللازوردي ليس في جسده فحسب ، بل في روحه وقلبه تماماً كما يؤمن الشاعر (حسن المرواني) :
لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها
لما أختاره الله لوناً للسموات
فنوارسه في قصيدة (أنا هنا) لم تكن سوى أيدي الملائكة التي حملت روحه فتحدى الموت وبارز القدر ليسطر نصر الشاعر الذي بوسعه أن يهزم المنايا . هكذا تحدى الموت ومضى إلى ملاقته بهندام أنيق حالقاً ذقنهُ متعطراً بأريج ربيعه وماشطاً شعره بسنابل سنينه لكأنه في عرس أو كرنفال شعري .
هكذا يرحل واثقاً من دربه تاركاً وراءه زلزاله والذي سيدوي أصداءه كثيراً في أفق ومدى الشعر التركماني . يالجين خير الله بللو رحل بجنون أمطاره لاجماً فم الجراح واقفاً بإباء منتظراً نوارسه البيضاء معتلياً صهواتهن متنقلاً بين أجنحتهن الناعمات آملاً الوصول إلى سرمديات القصائد .
أيها المجازف بروحه المعذبة دائماً والهائم أبداً ، وأرثك موجةٍ قديمة تقبلُ روحك المعذبة متحدياً بها الزمن :
( ماذا لديه عندي )
ماذا لديه عندي
سفير الموت
ليقف على رأسي
هكذا
سوى روح معذبة
وقد أخذها الزمن
ومضى
فليأخذها
طالما التجأ دائماً
لأحضان أمي .
يالجين بللو وهب روحه لنوارسه البيضاء وقال لنا انتظرونا سنأتي يوماً حاملين النرجس والياسمين لكم بعدما يشق الضياء ستائر الليل فهو عاشق خرافي لتربه مدينته ولثغرها الباسم بالفراشات (أنا لا أستطيع الحياة دون أن أضع قدمي ويدي وسمعي في تربة وطني) كما يقول – بابلو نيرودا .
وهذا ما فعله شاعرنا الشهيد الذي وهب كل ما يملكه لهذه التربة التي عشقها يوماً .
فلم يتعب يوماً من شبح الهواء باحثاً عن شفرة حادة بين كلماته كي يحلق لحية غيوم المدينة الكثة، ألا أن المناخ كان ضريراً لا يبصره ، شاعر ينقب في مناجم الروح عن أسنان قصائده البيضاء ، غير أن الحلم كان قصيراً وقد أصابه الكساح ولكن عصفورة روحه لم تتوقف عن الزقزقة ولن تكف عن الطيران فكم سنة وأنت تركض بقدمين عاريتين خلف اللصوص الذين اختطفوا النهر وحين عدت وجدت حذاءك قد سرق ، وكم من الدموع قد بكيت كي يبقى منسوب الفرح جارياً لترش منه برذاذ حلمك على وجه أطفالك وحضنك أكبر من قارة وعينك أكبر من مجرة .
طويل أنت كالمسافات ، وشاسع كالمدى ، كالمواويل من علم الريح أن تكون عاصفة هوجاء كي تسرق تراب البلاد ، وحدك من كان يعلم أن من يطيع العواصف تلك قد صبأ ، وحدك كنت تعرف كيف تؤجج الجرح شهوة الرماد ها قد سكبت ماء الروح فغرفت الكوابيس ببركة حلمك الصغير وقد كنت المنتصر .
آخر ما بقي قوله :
لو كنت أرى الموت لطعنته بسيف الحياة

اكتشافات

شعر : محمد أحمد آمرلي

قارورة عطر
كسرتها الحماقات
ليلة موت البنفسج
وسقوط مرايا الروح
احتفالا بهشيم لن يتكرر
المرأة بين أربعة جدران
تهمة باطلة
وأنا ضحية
الحروف الشاردة
من جسدها
الظلام مدخل لكل فضيحة
والموت
نهاية نكتشف بها أنفسنا
الآلام قطط متوحشة
تحفزنا بمواءاتها
ولا سبيل للجسد غير احتضانها .

2008/07/07

مفاتيح فاروق مصطفى

شاعر وكاتب / كركوك
درجتُ في بيتٍ كانت الحكايات والقصص تُلقى في أركانها المتعددة فالوالدة كانت حكاءة مجتهدة لا تمل من رواية حكاياتها الملأى بالمردة والجان ، كنا نتحلق حول منقلة الفحم في ليالي الشتاء أو نستلقي على سطح الدار في ليالي الصيف الحالمة فتبدأ موسيقى مروياتها بالانطلاق ونحن معها ننطلق إلى عوالمها السحرية . وإلى جانب الوالدة كانت لنا قريبة تدعى العمة (جميلة) هي الأخرى حكاءة نادرة ، وإذا أحست أمنا أن مزاجها ليس على ما يرام أرسلت في طلب " العمة " وسرعان ما تطل علينا وإذا حكاياتها تسبقها إلى الدار ، ولم تكن حكايات عادية فهي تملك أرجلاً وأيدياً وقلوباً تنبض ورئات تتنفسُ وكانت تشدنا إليها إلى درجة نتماهى في مروياتها الخرافية ونتمنى ألاّ ينتهي قصها وأن يتجمد الزمان وتتلاشى الساعات ، أما بالنسبة إلى القص المدون فأشقائي يتبارون في رواية المدونات التي يقرؤونها ، فأنا قبل أن أعرف الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله وكتبه أصغيت إلى روايتيه : ( لقيطة ) و ( شجرة اللبلاب ) ترويان صفحة بصفحة وبكيت مع أبطالها وبطلاتها واستمعت إلى حكايات ( ألف ليلة وليلة ) فاستهوتني أجواؤها وسحرني شخوصها البسطاء وعندما كبرت بعض الشيء اكتشفت عالم القصص البوليسية عن طريق بعض أترابي إلا أن تلك القصص لم تستهوني كثيراً فتركتها إلى عالم القصص الرومانسية ، ومع كتاب ( العبرات) لمصطفى لطفي المنفلوطي انفتحت لي كوة ساحرة في القص المدون فقرأت كل مدونات الكاتب المصري الموضوعة والمنقولة ، ثمّ انتقلت إلى جرجي زيدان عملاق الرواية التاريخية وجبران خليل جبران وفي أحد الأيام قادتني قدماي إلى محرابِ المكتبة العامة فدخلتها خائفاً متوجساً كأن كل عيون الكتاب والمؤلفين ترصدني ، ولكن ما هي إلا أيام وإذا ألفة من المودة والحميمية تبدأ بيني وبينها وتستمر إلى السنين اللاحقة وفيها تعرفت على كنوز القَصص الإنساني فعرفت الكتاب الأجانب وصادقتهم وأحببتهم ولا أدري كيف مرت الأيام والأعوام وأنا أغوص في عالم الروايات ، فغدت عوالمها أكثر حقيقية من الواقعِ نفسه أليس الفن هو إعادة لخلق العالم من جديد ؟ كما يصرح بذلك "ألبير كامو" في أحدى مقولاتهِ، وتماهى عنديِ العالمان الواقعي بالفانتازي ، والمنظور باللامنظور، ومن هذه القراءات غدوتُ أبصر بعين قلبي كما يعلن ذلك الحلاج ، ولا أعلم كم من الروايات قرأت وأنا إلى الآن عندما أقرأ أو أسمع أو أتفرج في التلفاز ويتناهى إلى سَمعي اسم رواية لم أحصل عليها ينتابني الحزن ، وها أنني بلغت الستين والله أعلم كم من المدونات لم أقرأها أو لم أسمعْ بها أو سمعت بها ولكنها لم تترجم إلى العربية ولكني أقول إن أجمل الساعات عنديِ وأنا على مقعدٍ في مقهى أو مصطبة في حديقةٍ عامة أو سريري في غرفتي الفقيرة منكب على صدر رواية أجول مع شخوصها وأنزاح بانزياحاتها وكلما أحاول أن أمسكهم فإذا هم يفرون من بين أصابعي فأعدو وراءَهم وغسق العمر يمتد ويمتد ليظلّل الجسد الواهن ويستر الأصوات الهابطة من شرفات البيوت المستنيمة لأصابع الإهمال وأقدام النسيان.
وفي هذهِ الصفحات مقالات كتبتها عن مدونات قصصية قرأتها في فتراتِ مختلفة من العمر وتركت انطباعات وتداعيات داخل النفس فأردت أن أنقلها إلى عالم الورق وقد نشر معظمها في جريدة (النصر) الجزائرية وصحف ومجلات عراقية كـ (العراق) البغدادية و (الحدباء) الموصلية و ( صوت التأميم) الكركوكية وهي كتابات متواضعة ولكنها تفصح عن حبي وشغفي بجنس القصص، هذا الجنس الفني الذي غدا خطابه من أخطر الخطابات الفنية لأنه يجمع إليه الأجناس كلها إلى درجة أن العديد من الشعراء في الأيام الأخيرة بدأ يطرق بوابة الجنس الروائي لما لهذا الجنس من غواياته الماطرة إلا وهي تبهج النفس وتمغنط القلب بشغفها الآسر وتوهجاتها الحارقة .

الشاعر والأديب التركماني الراحل

كتابة : صلاح الدين ناجي أوغلو
يقولون إن الموت صعب ولكن فراق الأحبة أصعب ،هاهو شاعرنا قد رحل عن عالمنا الى عالم الغيب والشهادة بعد أن تربع على كرسي الأدب التركماني لأكثر من (35) عاما وهو وإن كان قد غاب عنا لكن ذكرياته ، أدبه وكتبه مازالت تعيش معنا خالدة وستظل هكذا أبد الدهر .
إن الشاعر والكاتب والمؤرخ لن يموت، سيظل خالداً مع الدهر . نرى إن سلطان الشعراء (فضولي) قد رحل عنا قبل قرابة 600 سنة ، ولكن بقصائده ومؤلفاته مازال يعيش في كل عصر.. كذلك بندر أوغلو (رحمه الله) سيبقى خالداً على مر العصور بشعره وأدبه وتراجمه .
إن (بندر أوغلو) غني عن التعريف في الأوساط الأدبية والثقافية داخل العراق وخارجه حيث أوصل أدب وثقافة التركمان إلى كل من أذربيجان وتركيا وبلغاريا والى بلدان أخرى ، وكان جسراً بين أذربيجان والعراق من خلال الترجمة والتأليف. إنني اعرفه منذ مقتبل الشباب وذلك عندما قرأ قصيدة باللغة التركمانية في جامع طوز الكبير (جامع الرسول الأعظم )حالياً، وكان ذلك في بداية الخميسنات من القرن الماضي . وكان مغرماً بالشعر والأدب منذ مطلع شبابه . إذ ترعرع الفقيد في بيت حداد فقير الحال ولكنه كان بيتاً غنيا بالعلم والمعرفة ، فكان والده (ملا عمران) رحمه الله من رجال الدين المعروفين في طوزخورماتو ومن قرّاء القران الكريم ويمتلك صوتاً شجيا في قراءة المدائح المنظومة بحق أهل بيت رسول الله ، حيث نهل الفقيد الكثير من معارف والده في الأدب والشعر وعلم التجويد.
وبعدما أمسك بزمام الأدب التركماني وتمكن من الأوزان الشعرية والمربعات التركمانية المسماة بـ (الخوريات )توسعت أفاقه الأدبية فاطلع على الأدب التركي الحديث وأصبح مغرماً بالشاعر التركي الكبير (ناظم حكمت) ، إلى أن قامت ثورة (1958)على العهد الملكي فتفجرت ثقافته وتحققت آماله ولكن ذلك لم يدم طويلاً حيث أجهظت الثورة ، ووجد (بندر أوغلو) نفسه في المنفى خارج العراق مرغماً ، حيث قضى فترة من حياته متنقلاً بين بلغاريا ولبنان وقبرص . وفي نهاية العقد السادس من القرن المنصرم عاد إلى أرض ألوطن وعين مديراً للثقافة التركمانية بعد منح الحقوق الثقافية للتركمان وترأس تحرير جريدة (يورد- الوطن) ، فظل يخدم الأدب والثقافة التركمانية طوال عقود ثلاثة وبعدما تقاعد ،عمل كمدير مكتب في وكالة أناضول الإخبارية).
إن المرحوم بندر أوغلو من مواليد محلة (جاقالا) في طوز عام (1937)، ورغم مرضه المستمر لم يتوقف لحظة في حياته عن العطاء الثقافي والأدبي ، ويعد من رواد الشعر الحر في الأدب التركماني .
له مؤلفات عديدة في العراق وأذربيجان وتركيا باللغتين التركية والعربية وله دواوين شعرية وكتب أدبية وثقافية وتراثية إضافة إلى جهود الكبيرة في حقل الترجمة .
لو كتبنا صفحات عديدة عن هذا الشاعر والأديب المبدع ما أعطيناه حقه .. وندعو من المولى العلي القدير أن يتغمده برحمته الواسعة .. إنا لله وإنا إليه راجعون

عـش العصافيـر قاسم فنجان


(مرثية )
لقد وضع موته المفاجئ حداً لعذابه الأبدي ... قال من سجّى جثمانه و مضى مخلفاً ورائه روائح لم يألـفها دمي سابقاً .. مضى بعد أن تركني وحيداً أمام قبـره أتذكر من أجل الذكرى فقط ، جسده الذي كان يمور بالكثير .. أيعقل أن تكون النهاية هكذا؟ نعيم (*) يتوارى في قبر! قلتها وكفـّاي تمسدان التراب الذي هاله الأصدقاء على رفاته، قلتها و عيناي يترقرق فيهما الدمع و ينـزل ساخناً ليلتمع وحل ثراه ببريق أخاذ .. تسآءلت في سري المضطرب من هول المصاب و قلت : سيأتـي الجواب حتماً مـن الأغوار و ستكف أفكاري عن الهراء .. انتظرت إلى أن غابت شمس القبور و اكتسى الأفق بلون حائل أحاله الغروب لشاهدٍ مخضب بلون الدم .. سكنت الأشياء من حولي و أخذ الظلام يدب بدفقات تمحي بالتدريج ملامـح شواهد القبور الشاهقة و تحيلها إلى تماثيل مروّعة .. غلفتني العتمة بالخوف و ما انفك قلبي و القبر يتنازعان على الجواب العسير. أقلقتني الوحشة المهيمنة على المكان ودفعتني للهذاء فوجدتني أهذي هكذا : أيها النعيم القديم اليوم لملم أشلاءك الأصدقاء و سلموها هدية للثرى ، اليوم و بلطف سجّى الصحب قصيدتك الأخيرة في قلبي و مضوا ، يا من حوطتني بأسراب الأوجاع و حلقت بعيداً مجرجراً معك إلى الأقاصي كلماتي ، يا من مزقتني برياح الرحيل و سربلتني بسموم الفقد و قلت اكتب القصيدة .. لماذا و قد عشش اليأس زاحفاً بجحافله القاسية نحو الذاكرة المحتضرة ؟ لماذا و كلما أمتدت الكف للقلم قطعتّها آلاف الهواجس المريرة ؟ دلني أيها الساخر من موتك على الطريق، هيئ لي في قبرك فسحة للتحليق ، دعني أشاطرك الوحشة و ألقمني حجر الحزن لأهذي هكذا ..
أنني ميت ، ميت .. قال صوت انبثق بغتة من ثراه الرطب .. صوت جعلني أرتعد من الرعب و أرتد فزعاً إلى الوراء . مادت الأرض تحت قدميّ المرتعشتين و اعتدل من التراب اللزج للقبر شبح بهيئة آدمية ، لم تكن الهيئة آنذاك له، كانـت لآخر يشبههُ تماماً، ظهر لهنيهات و غاب مخلفاً ورائه أصواتاً هامسة ، ميزت رغم اكتظاظها صوته الخفيض ، أجل كان صوته يأمرني و يقول :
- سأفتح لك درب المجهول لتمض إليّ حيث الخوف هناك يتربع على عرش قلبي الهزيل ، حيث العتمة تفرد من هول الهول جناحيها القاسيتان لتطبق على جسدي العليل ، سأسمح لأنامل لوعتك الشديدة أن تمس جلدي الملوحّ بالعذاب ..
سرت كلماته الهامسة في قلبي حتى راحت كلماتي تنـز كالدم من قلبي قائلة : نم يا صديق العصافير آمناً في عشك الحجري ، في جسدك الرقيق يجري البحر بمركب الذكريات فلا تخشى الطوفان ، نم يا شهيق الصحب فعلى هامتك يرسم الود أكليل النور الذي لا يخشى الظلام ، يا منشد الورد الوحيد، عما قريب سيشق الأريج طريقه الملون صوبك ، فأيقظ له كل قصائدك الغافية ، اسأله غنائها و ستراه يرددها نشواناً ، سنسمعها في حقول الشعراء تصدح بها عالياً حناجر البلابل الساحرة ، ستلطخ خضرة الأشجار بترانيم آسية يطفو نشيجها فتشربه الغدران العطشى ، تشربه و يعكر صفوها الرائق النشيج المر و ترتسم في لججها المضطربة ملامح النهاية القاسية . أدركها و ادرك ما سيأتي من خراب، أفر بكلمات قصيدتي بعد أن خلفتني إزاء وحشتي أطالع النهايات في الليل منفرداً ، لا أنيس لي في متاهتي سوى ظلام يكفّن جسدي بالسواد و قبر يكفّن جسدك بالبياض ، أقول له قم يا صديق التسكع إنها رقدتك الأولى ، انتفض منها و تساوق عالياً مع النداء الحزين .
شق الوجع الشديد طريقه إلى فضاء الحلم و اتجهت أحزاني صوب التراب ، كانت تنفذ بقوة مني للظلام الساكن، تربكه فيمور بمخاض يتجلي ليّ فيه طيفاً يشبهه ، يتجه نحوي و يطالعني بهيئته التي اعرفها جيداً، يزلزلني حضوره المباغت فأرتعد من الرعب، تمتد كفاه الرحيمتان لرأسي و تطمئن لمستها الحنونة جسدي المختض من الخوف و يقول :
- لمَ الحزن ؟ لقد استحلت إلى قصيدة مشتعلة أضاءت عتمة مكاني الأبدي ، لا تحزن لقد فتحت ليّ البهجة هناك أزرار قميصها الوردي ، دعتني للدخول فيها فدخلت . ولجتها يا صاحبي فبزغت من أغوارها المنارة بالحنين الأقمار الفضية، ارتعشت فقادتني محمولاً عليها نحو شمس مسّني دفؤها فاحترقت، احترقت و تساميت حتى دخلت غيمة الشعر ، في أثيرها الساحر حلقت يسورني أحبابي الموتى ، يغسلون الأوجاع بالدمع و يميطون عن قلبي لثـام الحسرة لأفرح ، أفرح و أستل ما تراكم من حزن غالبني في حياتي الماضية .
أصغيت له و دنوت حتى اخترقني قبس من ضياء روحه الطاهرة ،رأيته متجسداً أمامي بكل وضوح على فسحة التراب التي انفتحت تماماً ، كنت أسمعه يترنم بأغنية العودة ، يسألني فيما لو كنت أسمعه أو أراه ، كنت أسمعه يتلاطف مع ما تهشم منه و يتوعد الجسد الهزيل بالرجوع ، أسمع روحه الحائرة ترنو لي بانكسار،أطمئنها فتهدأ و تغزوها بهجة السرور، ترتعش الأشياء من حولنا و يسري حمى الفرح في كل شئ، في أوج ذلك الاحتفال يرى أرواح الشعراء الموتى يتقدمهم جعفر(**) .. جعفر الذي يحتفي بحضوره المهيب ، ينبهر لمرآه و يرمقني بنظرات مرتابة فأقول له مطمئناً ، لا تخف انه يدعو الموتى لينهمكوا في معالجة جروحك الخائرة ، سيسألك عن الصحب و عن الأهل فأجب ، تهمي من عينيه الصغيرتين دمعتين تلسعان جرحه فيتأوه من الألم ، يحتضنه الصديق القديم بقوة فتهدأ جروحه المزمنة ، يسأله عن سر وجوده الغريب بينهم ، يسكت فيفضحه رجع وجعٍ ينبثق من داخله الموجوع ،يناله الأسى المر فينتبه لما حوله من يباب، يقرأ في الشحوب المهيمن على الجميع وجه الموت ، و يدرك أنه ميت و إنهم ميتون .
يرتعب في الحال من الحال الذي آلت إليه حياته الفقيرة ،ينكفئ على وجهه من الفزع ، يهوي ويرفع بدنه الرقيق جعفر، يستقيم و يبهره سطوع البياض الذي تتسربل به روحـه الشفافة ، تصفع وجهه ابتسامة بيضاء يطلقها الصديق ، يخاله يسخر منه ،فينزعج ويبكي ثم يضحك و يضحك حتى تتنـاهـى القهقهات للموتى ،يصطفون للضحك و يضحكون حتى يبكون من الضحك ، تصدح حنجرته المثقلة بالشعر و تأمرهم بالإذعان و الكف عن البكاء ، يصغون لصوته و هو يستبدل الدموع بالقصائد ، ينصتون لرجع الأوجاع المريرة ويكفّنون بها ما تبقى من أحلامهم النحيفة ، يضحكون من البكاء الشديد و يصفقون له بأكف الشوق فيسيل الحنين الذي لا يحتمله قلبه العليل ، يسيل الحنين و يلعقه قلبي أيضاً ، قلبي الذي يقاسمه العتمة و يشعل بدلاً من روحه روح الشعر، تحاصرنا فجأة روائح الفناء العطنة القادمة من اللامكان فيـسورها الشاعر بأزهـار القصائد لتعبق في لحظة المحنة روائح القصيدة الزكية .. أتشممها و أسكر من الوجد و يستحيل مـوته المؤلم إلى حياة باهـرة ،في مخاضها العسير أرى روحه تنبثق من سجن الجسد المتين لتدخل في حقل السحاب الفسيح ، تسمو محلقة في أعالي السديم، تطالع من هناك بدنه الذي سجّوه في القبر و انصرفوا ، يتأمله معي بغرابة و يقول :
- انه جسدي ..
اجل .. انه جسدك الذي من أجله الآن تهبط محققاً حلم الرجوع الأخير ، ستصله عما قريب و سيأذن لك حارس الموتى بالدخول ، ستدخل و على سرير الحجر تنام غير مكترث بشئ ، تحلم بالفجر الذي لملمك مرة ومضى ، في غبشه القرمزي تفتش عن سنوات عمرك الزاهية، بأيامها تطالع هوس النهارات الجميلة، يركض حذاء ما انصرم من لياليك الأجمل ، لحقولها الخضراء ترنو فتأخذك حمية الورد هناك حيث الحياة تدعوك لتتقدم اليها ،تتقدم و يشتد وجيب القلب الذي كان يقلقك فيما مضى وتنبض الحياة فجأة في قلبك ، تضج بضجيج العمر حينما تتسلل خلسة من دمك الروح إلى خيوط الكفن الصفراء ، تتشرب بها الأنسجة الميتة و تستحيل إلى ريش يغلف جسدك بالأجنحة .. تخال رفاتك و قد صيّرها الحال إلى طير أبيض ، تصفق بجناحيه بقوة و تحاول التحليق فيرتطم رأسك الصغير بسقف اللحد ، ترتد إلى الخلف و تعيد الكرة و لا تقوى ، تحضر روح الشعر المسعفة وتحرقك بمخيالها، تلتهب القصائد بقسوة و يشعل لظاها قش موتك الثقيل ، تتجمر الكلمات الشفافة و يعرّج بك دخانها الذهبي صوب الأقاصي ، تسمو تاركاً لرمسك الخواء طائراً صوب سماء تستقبل غيومها وجهتك بالندى، يطهرك العروج السماوي و يجلي عن هيئتك شحوبها الشديد ، تندهش من شدة البياض الذي يداهمك بسطوعه الوهاج .. تشرع بترتيب جراحك القانية على مصاطب الغيوم ، تغسلها فتفر الأوجاع منها متبوعة بالأنين ، تصغي لأجراس الشفاء تترنم بها أسراب العصافير التي تكلل رأسك بالسرور ، تطربك زقزقتها الغريبة فتهمس لها بالمزيد ، تزداد و يباغتها نقر وحشي تشق مناقيره الحادة حناجر العصافير ، ترى الهلع المرتسم في عيون الطيور الصغيرة و تسمع استغاثاتها مدوية في قلبك الرقيق ، تفتح لها راسك لتدخل و تدرك أن لامناص من الغياب ، تهرب العصافير المعششة فيك عالياً، و تخلفني وحيداً أمام قبر خاو لم يقو على طمر جسدٍ صار عشاً للعصافير ...
* نعيم الخباز : شاعر شعبي عراقي و لد في الناصرية و مات فيها مريضاً بالبلهارزيا بعد أن عاش الجزء الأكبر من عمره في كركوك. تتسم قصائده بالسخرية اللاذعة و التهكم الجريء و له أسلوب متميز و خاص في كتابة القصيدة العامية .* * جعفر موسى : ممثل مسرحي و قاص و شاعر ولد في كركوك و يعتبر من علاماتها المسرحية المهمة . سكن قلبه فجأة في أحد شوارع المدينة ، و مات بعد أن أثرى المسرح العراقي بأعمال كثيرة في التمثيل و الإخراج .