2008/10/05

يالجين بللو


و رحيل آخر نورس من أصدقاء المطر
( كن عراقياً ...لتكون شاعراً )
محمود درويش
بقلم : تحسين ياسين

هذا ما يتمناه الكثير من غير العراقيين ، وهكذا كان الكثير من العراقيين شهداء وشعراء ، وبذلك قد نالوا الشرف الرفيع وسلموا من الأذى حتى راقت على جوانب البلاد دماهم . فكان أبن بللو يالجين أحد هؤلاء ، إنه آخر نورس من أصدقاء المطر والسنابل وآخر شاعر من أخوة الرعد والنرجس .
حياة قصيرة – طويلة عشق فيها صوت المدينة وهطول الأحلام كعشق النوارس للمرافئ ولمجيء البواخر ، قصيرة بالسنين وطويلةٌ بالأحزان والمواجع ، قصيرة كالتوقيعة الشعرية ، كحلم طفل وطويلة مفزعة كالكوابيس . كان لا يفكر ألا بصوتٍ عال أشبه بالصراخ لأن الضجيج من حوله كان يحاصره ويطعنه من كل الجهات ، واكتظاظ الأفواه نسج بفضائه خيوطاً متشابكة حائرة فأستطاع أن يحيك بعدها ثوباً أزرق لحلمه الذي تعب من الطيران دونما أجنحة ، هذا الحلم الذي يجوب السماء بأمل وفرح ، ثم يرجع إلى رأسه الذي ليس له جدران ، فالأحلام البيضاء لن تدخل رأساً تحيطهُ الأسوار ، وحلمه الصغير هذا بسيط وصعب في آنٍ معاً .. إنه يتعامل مع المطلق بتناوله للأشياء ومثالياً في ممارسته لحلمه :
لي حلم ..
يطير دونما أجنحة ..يجوبُ السماء ..
بأملٍ وفرح
بعدها ..
يرجع إلى رأسي
الذي ليس له جدران .
هذا الحلم لطالما راوده فألتقطه في غطسته الأولى بأعماق ذاته ولطالما نشر على خيوطه أسرار ذاكرته المعتقة بالأزرق والتي تتدلى كبندول ساعة قديمة لتدق كلماته في صفحةٍ من ديوانيه الاثنين معلنةً عن بدء رحلة زوارقه الشعرية وقد رافقته في رحلته تلك نوارس روحه البيضاء .
هكذا كان حلمه يرقص مع إيقاع ليله ، وأمله أن تطلي النسوة شفاههن بالأزرق محاولاً استفزاز آذانهن بصوت نوارسه كي يعمق لون الأزرق في مخيلة القارئ ويقرب الإحساس به عبر مشهده الدرامي . وكما قلنا أن صوته كان عالياً يحاولُ دائماً ملامسة زرقة السماء تارةُ والبحر تارةً أخرى . لكن طبلة أذن الزمن مثقوبة عند الآخرين يسيل منها الصمت والشتات والحيرة .. هكذا كان يخال على الأقل . أراد أن يقول للآخرين أن القبلة الأبدية تبدأ بشفتين صغيرتين وبعدها بوسع الروح أن تهيج مع تلك الأمواج الثائرة.
نعم ومن يقرأ ديوانيه يتحسس انه ثمة خيطاً أثيرياً أزرق أراد أن يربط به تأملاته وما كانت ألا روح أبن بللو يالجين ، فكان يسحب به طائرة الشعر الورقية كطفل يركض بألقه نحو قوس قزح غده الذي ينتظره .
فبعدما لملم شظايا سنينه وزفراته واختزال أصوات حيواته الداخلية والتي تصرخ منذ أمدٍ في ذاته ، ليهتف عالياً وبلسان الجميع ( أنا هنا) أنه هناك بين تلك الأمواج الثملة ، وقد رجع بنا الصدى إلى مناخات (ارثور رامبو) و (مركبة السكران) . نحن هنا صرخها في وجه النظام آنذاك وببراعة أصاغ نصوصه ، نحن هنا رغم أننا متروكين في هذا القبو الذي هو العطش الروحي والعقائدي في الوقت الذي كان الكثيرون ينسجون تحت جلودهم رافعين راية الشحوب . فأسس بذلك لحزنه وللغته صرحاً عبر قصائده مسجلاً موقفاً جلياً .
وكذلك كشف أسرار الرحلة في ( العربة الثانية ) بديوانه الثاني والرجل الذي يجلس فيها هو الذي جعلنا نشعر بزفير القطار ونتحسس أنين عجلاته التي تدور وهي تصارع السكك ، كأسنان رجل تصطك هلعاً من الرحلة المجهولة . أي حزن كان يلفك أيها المتحررُ من دائرة المستحيل ، وأي صوت هذا الذي يحاول تزيين وجه الرحلة الضبابية !! فالأرض كانت قاحلة والقافلة التي تبدو في الأفق محض سراب ، لكنك دائماً كنت تؤمن بأن :
(الصمت خوف أخر
للذين لا يتقونه ) .
أيها الحاكم أبداً بنهر الطفولة والذي طمرته مخالب غربان موسم الهجرة وعيون المدينة الناعسة والتي ما زالت مكحلة بك ، وقد تجمدت على رموشها المتعقبة آلاف الدموع ، ووجهك اليوم يعانق (وجه السماء) (كم هي مقدسة / زرقتك أيها البحر / صباحاتك تداعب الشمس / ولياليك / تعانق النجوم ) وأي إيمان بقدسية الأزرق فالصفة والموصوف هنا مقدسان لديه من وجهة نظرته الثورية ويقينه العقائدي ، فعملية الإسقاط التي تحدث للشاعر من لا وعيه هي كشف مكامن الذات البشرية أو كما يسمى بالحداثة الشعرية وأيمان الشاعر اللاواعي بالأشياء ، فتنبؤه بالرحلة الأبدية قد سقطت من لا وعيه في هذا المقطع الأخير من قصيدته (أنا هنا) :
صرخ نحو الأعالي ...
أغيثوني أنا هنا ..
وئدَ نفسه
داخل موجة البحر الثملة
رحلتنا ستمضي إلى الجحيم
دونما توقف
هيا معي يا صديقي
فقد أستطاع لاوعيه وثوريته الذاتية أن تتغلب على محيطه الخارجي البعض نظر إلى مملكته الشعرية من الخارج ولم يلق بنظرة فاحصة إلى الداخل ولم يتحسس الروح التي تسكنها ولم يسبح في فضاءآته . فكانت نصوصه ثورية تحررية تنبع من أرثٍ استطاع المحافظة عليه حتى آخر لحظة من عمره الشعري . ومن يتعامل مع لاوعيه الشعري بمنطق الواقعية فأنه يقع في خطأ فادح . فلم تخلُ حياته من صهيل القصائد ومعانقة القمر والذي رآه يوماً في رقة نهر طفولته (المدينة) فكانت الغربان تترقب وما أن نامت عيون المدينة حتى أنقضت عليه وطمرته بمخالبها تاركةً غبار طفولته وعشب ذكرياته تأخذها الريح رويداً رويدا . لقد أغتيل نهر المدينة والذاكرة فجأة مثلما أغتيل الليل وسهرات المواقد القديمة الدافئة والكثير من الاعتبارات ، كل هذه الأحباطات والمفاجآت بمحيطه قد لعبت دوراً في سنينه الأخيرة ، ورغم ذلك فقد تمكن بإصرار أن يستمد من أمطاره ابتسامةً لمواجهة جيوشٍ من الأحزان والمرارات الجرارة والتي حاولت محاصرته فخابت ، لأنه كان يسكن الرعد ، وقد تجلى كل ذلك في قصائده ، فالرجل بقي ثابتاً بموقفه إلى حد الحيرة والدهشة . ففي كل مرة تتلاطم أمواج البحر صدره تاركة لونه اللازوردي ليس في جسده فحسب ، بل في روحه وقلبه تماماً كما يؤمن الشاعر (حسن المرواني) :
لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها
لما أختاره الله لوناً للسموات
فنوارسه في قصيدة (أنا هنا) لم تكن سوى أيدي الملائكة التي حملت روحه فتحدى الموت وبارز القدر ليسطر نصر الشاعر الذي بوسعه أن يهزم المنايا . هكذا تحدى الموت ومضى إلى ملاقته بهندام أنيق حالقاً ذقنهُ متعطراً بأريج ربيعه وماشطاً شعره بسنابل سنينه لكأنه في عرس أو كرنفال شعري .
هكذا يرحل واثقاً من دربه تاركاً وراءه زلزاله والذي سيدوي أصداءه كثيراً في أفق ومدى الشعر التركماني . يالجين خير الله بللو رحل بجنون أمطاره لاجماً فم الجراح واقفاً بإباء منتظراً نوارسه البيضاء معتلياً صهواتهن متنقلاً بين أجنحتهن الناعمات آملاً الوصول إلى سرمديات القصائد .
أيها المجازف بروحه المعذبة دائماً والهائم أبداً ، وأرثك موجةٍ قديمة تقبلُ روحك المعذبة متحدياً بها الزمن :
( ماذا لديه عندي )
ماذا لديه عندي
سفير الموت
ليقف على رأسي
هكذا
سوى روح معذبة
وقد أخذها الزمن
ومضى
فليأخذها
طالما التجأ دائماً
لأحضان أمي .
يالجين بللو وهب روحه لنوارسه البيضاء وقال لنا انتظرونا سنأتي يوماً حاملين النرجس والياسمين لكم بعدما يشق الضياء ستائر الليل فهو عاشق خرافي لتربه مدينته ولثغرها الباسم بالفراشات (أنا لا أستطيع الحياة دون أن أضع قدمي ويدي وسمعي في تربة وطني) كما يقول – بابلو نيرودا .
وهذا ما فعله شاعرنا الشهيد الذي وهب كل ما يملكه لهذه التربة التي عشقها يوماً .
فلم يتعب يوماً من شبح الهواء باحثاً عن شفرة حادة بين كلماته كي يحلق لحية غيوم المدينة الكثة، ألا أن المناخ كان ضريراً لا يبصره ، شاعر ينقب في مناجم الروح عن أسنان قصائده البيضاء ، غير أن الحلم كان قصيراً وقد أصابه الكساح ولكن عصفورة روحه لم تتوقف عن الزقزقة ولن تكف عن الطيران فكم سنة وأنت تركض بقدمين عاريتين خلف اللصوص الذين اختطفوا النهر وحين عدت وجدت حذاءك قد سرق ، وكم من الدموع قد بكيت كي يبقى منسوب الفرح جارياً لترش منه برذاذ حلمك على وجه أطفالك وحضنك أكبر من قارة وعينك أكبر من مجرة .
طويل أنت كالمسافات ، وشاسع كالمدى ، كالمواويل من علم الريح أن تكون عاصفة هوجاء كي تسرق تراب البلاد ، وحدك من كان يعلم أن من يطيع العواصف تلك قد صبأ ، وحدك كنت تعرف كيف تؤجج الجرح شهوة الرماد ها قد سكبت ماء الروح فغرفت الكوابيس ببركة حلمك الصغير وقد كنت المنتصر .
آخر ما بقي قوله :
لو كنت أرى الموت لطعنته بسيف الحياة

ليست هناك تعليقات: