2008/11/04

ما قاله الأصدقاء لكركوك الهاطلة في القلب


كتابة : فاروق مصطفى

بالرغم من مرور عامين على رحيل القاص "جليل القيسي" وترك عالمنا إلا أنني أحس خطواته وهي تدب على طرقات المدينة ، كلما اقترب من الأماكن التي اعتدت مشاهدته فيها.. أشعر حركاته وانتقالاته ونظراته التي يلقيها جهة اليمين أو اليسار ، وكأنه بصحبة الإله البابلي "مردوخ" الذي هبط كركوك في إحدى ليالي الربيع داعيا "جليلا" إلى أحد احتفالاتهم الباذخة – انظر " قصة مملكة الانعكاسات الضوئية " أحسه وهو يقطع "شارع الجمهورية" أو يتأنى أمام مكتبة الدار الوطنية، وحتى أنا أقطع كل هذه الطرقات أتخيله منبجسا من بين زحامات السابلة وهو ذاهب إلى موعد مع أحد الأصدقاء أو زيارة إحدى مكتبات المعشوقة "كركوك" وكان حريصا على تجواله العصري فهو يعده أحد طقوسه اليومية ، فثمة أماكن معينة يرتادها من محلات أو مكتبات في ساعات العصارى الكركوكية ، وأعتقد أن هذه العادة ظلت تصاحبه إلى سني حياته الأخيرة.
عرفت الراحل "جليلا" عام 1964 في مقهى "المدورة" وكان يسمى في تلك الأيام البعيدة بمقهى النصر ومع الشاعر (جان دمو) وكانت هذه البداية في التعرف على بقية الصحب الذين عرفوا في الأعوام اللاحقة "جماعة كركوك" تمتّنت وشائج الصداقة بيني وبينه وقويت واستمرت الزيارات والتجوالات في طرقات المدينة وكثيرا ما كنا نلتقي في منزله القائم في محلة "شوان" القريبة من سوق (هرج كركوك) – نجتمع في داره وتخرج الأوراق المحبرة من جيوبنا وتبدأ القراءات ثم المناقشات التي تستمر إلى ما بعد منتصف الليل .
الآن مع ساعات العصارى في كركوك يشاهد "جليل" وهو يصعد شارع الجمهورية أو يهبط صوب ميدان "أحمد آغا" بخطواته السريعة وكأنه يريد أن يدرك موعداً مع صديق وقد حمل معه كتابا أو مجلة ، وأتخيله في بعض الليالي يصعد قلعة كركوك وهو يتأمل القمر النعسان الهابط إلى أمواه نهر "الخاصة" للاغتسال برذاذاتها الناعمة ، وربما هبط بعض أصدقائه من مملكة "بابل" القديمة لمنادمته ، وكذلك بعض الشخصيات الروائية العزيزة من عند القديس "دوستويفسكي" أمثال غروشنكا أو الأمير موشكين أو الأب زوسيما ليدعوهم إلى منزله ويحتفل معهم بطيبة وكرم المدينة التي أحبها حتى النخاع، وآثر البقاء فيها حتى انطفاء الشمعة الأخيرة بين كفيه المعطاءين.
"عباس عسكر" هو الراحل الآخر الذي أحس دبيب خطواته تضرب طرقات "شاطرلو" وهو يغادر داره القريبة من تلة (تعليم تبة) للقيام بجولته الصباحية أو المسائية، عهدي به يسير في الشوارع والطرقات المنتشرة من أمام حمام (علي بك) هبوطا إلى سوق القورية. كنا نلتقي في الكثير من المقاهي الصغيرة الوادعة السكرى بضوعات شايها المهيل ، والراحل "عباس عسكر" امتدت صداقتي معه أكثر من أربعة عقود دون أن يصيبها كدر أو يعكر صفوها شائب. بدأت في مقهى تعب كان يستلقي على الجانب الأيسر من شارع الأوقاف ، وفيما بعد هُدم ، وأقيمت مكانه بناية دار العدالة الجديدة ، نذهب إليه صلاح فائق وجان دمو وأنا، مجتمعين نتدفأ بأقداح الشاي وننفث أدخنة سكائرنا وأحلامنا الحافية ثم ندخل قصائدنا نقضم رغفانها ونتلمظ إدامتها وربما كتبنا قصيدة جماعية رتلناها في أذان كركوك الناعسة عندما يبدأ الغسق يتقدم على مناكبها، وتتفتح أقاحيها القرمزية على مدى فضاءات المدينة الرحبة .
دعانا الصديق "عباس عسكر" إلى منزله – الزمن أواسط الستينات – وفي تلك الأيام كان يسكن (عرفة) وهو في سلك التعليم وقد اشترى السيارة الأولى في حياته ، وأعتقد أن ماركتها كانت (موسكوفيج) خضراء اللون تجمعنا في دار "جليل القيسي" وبرفقة صاحبيّ الدائميين : صلاح فائق و جان دمو وقادنا عباس عسكر إلى داره وقد اصطحب (جليل) معه جهاز التسجيل ذات البكرات المدورة وكنا اكتشفنا صوت "زكي موران" وعندما كنا نخمر لا ندري ننتشي بهذا السائل الذي لا تنزل الأحزان ساحته أم بصوت هذا المغني الخالد الذكر. تجتمع لك الصهباء مع الأوراق المزهرة بالأشعار وصوت كهذا الصوت الذي يخترق الأشياء والمسامات وأنت محاط بهذا الجمع من الصحبة الطيبة تحس أنك متوّج بأحلامك وحكمك ، وبهذه الصحبة الزهراء – كنا لا نحس إلا بأصواتنا التي تعلو ولا تهدأ ، هي عادة الصحب وهم يتناقشون حول ماهية الشعر وتقنيات القص والدهاليز والأقبية التي تنحفر في روايات القديس دوستويفسكي .
عندما اشتد المرض على الصديق عباس في صائفة 2007
كنت أزوره زيارات متقاربة وأرى أمامي عوده يجف ويسري الإعياء في بدنه الناحل إلا إنه يكثر الذكر بصداقتنا و يقول لي : تعلم عمر هذه الصداقة ، وكيف أنها استمرت كل هذه السنين الطوال لأننا ترفعنا على السفاسف وتكبرنا على المنافع وأنا أخبرك أيها العزيز بأن صداقتنا ما زالت مستمرة تنبض وتتنفس ، وكلما مررت من تلك الأماكن التي كنت التقيك فيها أشاهدك وأصافحك وأتبادل معك كلمات المحبة والتوادد واسترجعنا ذكرى ذلك العصر الذي صعدنا فيه إلى مقبرة "تعليم تبة" للعثور على قبر العزيز (يوسف الحيدري) وتلاوة آيات عطرات على روحه ، إلا أننا لم نعثر القبر المنشود ومع ذلك جلسنا عند قبر وفتحنا مصحفينا ثم بدأنا نتلو الآيات السمحاء ، والربيع حولنا يتدحرج من فوق التلة بأنسامه وأعشابه وأزهاره البرية كأنه كان هو الآخر يستذكر ذلك الصديق العزيز الذي تركنا فجأة في أحد الأيام .
الصديق الراحل "رعد مطشر" أحسه جالسا في محله المتواضع تحت فندق الميلاد وقد عوّدني أن يدعوني إلى محله كلما مررت من أمامه وأنا متجه إلى الصوب الكبير ، عند ذاك أعلم أن ثمة عناوين تخص جماعة كركوك احتوتها الصحف التي وصلته وهو يستنسخها لي بعد أن ينادمني على قدحين من الشاي اللذيذ ، أقتعد كرسياً وأنا أسمع منه آخر إصدارات الكتب والأخبار الأدبية ، وأتأمل صور الأدباء الأصدقاء زّين بها جدران المحل وكذلك علّق بعض القصاصات التي تحتوي على نصوص الصحب، وقد تعمقت علاقتنا بعد صدور جريدة (صوت التأميم) بكركوك وخاصة بعد أن تسنم مسؤولية الصفحة الثقافية فيها ، وقد طلب إليّ أن أكتب استذكاراتي عن الصحب في جماعة كركوك .. وبالفعل كتبت أول مقال لي عن الجماعة المذكورة حمل عنوان " جماعة كركوك : ذكريات وتداعيات " وظهرت على صفحات الجريدة الكركوكية ، ثم طلب إليّ أن أكتب عن كل أصحاب الجماعة واحدا بعد آخر ، فبدأت بـ (يوسف الحيدري : الاستذكارات المتجزأة) وظهر المقال على صفحات الجريدة عينها ولكن المقال الذي حمل عنوان : سركون بولص في ذاكرة المدينة الأدبية" حجب عن النشر لأسباب خارج نطاق قدرته. ومن عادة الصديق المرحوم (رعد) الاحتفاظ بكل النصوص التي كنا ندفعها إليه ، وقد احتفظ بالنص المذكور عنده ودفعه إلى النشر بعد تغيير النظام على صفحات جريدة (الوحدة) التي أصدرها وهي أول صحيفة تعانق النور في الوضع الجديد الذي قام بعد 9.4.2003
.. ولا أنسى إعارته لي كتباً أدبية ، حيث كان يترك كتابين في محله أستعيرهما ، وعندما أعيدهما أجد أنه ترك لي كتابين آخرين.. وكانت الكتب نادرة إبان الحصار، وهكذا فتح لي كوىً إلى مشاهد الثقافة والمعرفة وعناق آخر الإصدارات الأدبية .
وعندما أصدر صحيفة " العراق غداً" نشر كتابي المعنون : ولجيد كركوك باقة من أزهار الخباز" على صفحاتها الثقافية مقالة إثر مقالة ، وأنا بدوري ظللت أنشر عبرها الكثير من نتاجاتي الأدبية في هاتيك الأيام.
ترك المرحوم إبداعاته في مختلف الأجناس الأدبية ، ففي الشعر " الغرقى يجمعون المرجان" وفي القص " حلم سمكة" وفي الدراما "خيول" وكتب في نصه الشعري (كركوك) :
سلاما يا مدينة القلعة المدلاة من مفاتيح الأفق
وسوّروك بالترانيم والمسرات
وزرعوا في حدائقك النجوم
فأثمرت قلعتك الموسومة كالتساؤل
وفرغوا في قدميك دورة الكاف الأخيرة
فدعيني يا مدينة البياض
أنشد أغنيتي الأثيرة
فكم من مرة ضحكت،
وبكيت ، ارتعشت ، خفت
كخليج التفاؤل
مناديا إني أحبك :
كركوك
وعندما أمر من أمام محله أتوقف كأن هتافاً يسقط إلى سمعي يهتف بي : أن تعال! التفت لعلي أبصر صديقي ، وأرى بعين قلبي إيقاع سخائه المموسق (يدوزن) كلماته إلى منادمةٍ لم تكتمل بيننا، وقصائده التي طالما حدثني عنها تتقاطر من خلل معصمه ، ترتفع وهي تعلو شجرة الكالبتوس الباذخة ، المنتصبة أمامنا ، تحلق مع طيور الصباح إلى أمداء وآفاق نائية.

ليست هناك تعليقات: