2008/11/04

المتسول

قصة طالب فراس
المتسول الغريب الأطوار أصبح في ظل الوضع العام مثل كل شيء قديم .. يعود ذلك إلى عدد المرات التي رأيته فيها جالساً على رصيف الجسر.. لاحظت من ناحيتي أنه اكبر مما أتصور ويبدو انه عديم الإحساس وغريب الأطوار وبليد المشاعر واعتقد ببديهة صافية أنه لا يفكر بشيء.. لابد للسنوات التي غيرت طعمها مرات عديدة أن تبدد الأحاسيس غير المرهفة نحو العالم.. لا أحصي العواطف التي تملكني وأنا أهبه القليل من المال .. وجهه يوحي بتلك الملامح العقيمة بسحنته الجامدة وهو يتلصص من وراء نظارته السوداء ، يدعو لي بطول العمر وكل ما يتوفر من كلمات الأدعية التي تعود إلى جيش من المتسولين والتي ليس لها أي تأثير على أقل تقدير في نفسي .. كان ذلك من عدم الإحساس الذي يميزه بعد تلك اللقاءات التي أراه فيها بالصدفة ، حشدت جميع مشاعر الخيبة وبددت الطيبة عندي ، لقد مضى الزمن الذي لا اذكره من تلك الظهيرة الفائضة .. يومها صرت مشدوها بالرغبة والفضول لاكتشاف حياته السرية ولسوء الحظ فان ما اكتشفته متأخراً ضاع في دهشة قصيرة لم تدم سوى أوصال متقطعة من الذكريات الفاترة . مما أثار حفيظتي فعلاً هو ذلك الإصرار الذي يقاوم عنف النظرات المزدرية للآخرين .. لكي أتخلص من الحرج أنسى أنني لا أعرفه .. تركته مرات عديدة يثرثر وحده وأنا اعرف بوضوح ما يختمر في عقله.. هزتني معرفته و سحره .. اذكر الآن تلك الظهيرة الفائضة ‘ كنت أتكئ على سياج الجسر .. راح الألف و الضجيج يختفي و حركة الناس تهدأ..في اللحظة التي فكرت فيها أن أراه..كان يجلس مرتاحا في ظل فندق الميلاد العتيد المرتفع في السماء الخاصة الفضي بشبابيكه المختفية وراء ورق الكارتون المقوى ، يفترش الأرض ويشرب بهدوء.. سمعته يلقي أشعاراً وغنى بصوته الحزين غناءً شجياً..تأملته بالرتابة ذاتها . بدت آثار السك تظهر بوضوح في صوته.. قام مترنحا سار فوق حصى الخاصة..لم يلبث أن قفز من فوق سياج الجسر بحيوية لا أصدقها ..أدرك انه لن يكف عن الشرب..وقف إمامي وأشار بإصبعه نحوي نظرت إليه كما لو لم أكن قد رايته من قبل ..سحبني من ذراعي و دعاني لشرب الشاي معه في المقهى القريب ..دعاني بصوت ملح ..أنفاسه المعفرة برائحة الخمر ملأت جوفي ، وشعرت بحاجتي للقيء ..يبدو انه ينسجم مع ذاته .. حدثني عن الضجر وساعات الملل غير المجدية ..لم أفكر بالكلمات التي أطلقها فانا واقع تحت تأثير الأسئلة حول حياته السرية ..خطرت لي فكرة الابتعاد عنه.. شعور مفرط بالاشمئزاز يدفعني للهروب منه .. من اللحظات التي تجمعنا على غير موعد ..اللاعواطف أو الكبر هي التي تتملكني .. بتلك الفكرة البائسة التي تصيب المرء أحيانا.. تلك الخيبة التي أحالتني إلى شخص وحيد.. حضرت أمامي كل الذكريات التي يصعب القبض على نهاياتها.. وحدها الأيام التي خلفت هذا اللاترتيب المعين للذكريات ، في السنوات التي كلفتنا جزءا من السعادة التي خسرناها و المصادفات غير المخطط لها لمعرفة حقيقتنا - أهميتنا وتفاهتنا - في ساعات التسكع تلك نتنفس فيها وجودنا الخاص . أحسب أنها ضرورية للتخلص من جنون الرغبات والآمال المحبطة..أعرف أن الأوهام التي اكرهها بمرارة ولدت كثيرا من احباطاتنا والواقع الذي لم يعد يسعفنا في تنفس الطيبة السماوية جعلنا متسكعين بصورة دائمة .. كان يبدو على المتسول الإحباط بصورة مرعبة وهو يتجول دائما في الأسواق..يقتل وقته بشكل مثير للشفقة ..يتسكع أيضا بطريقته اللائقة لشخصه..صرنا نتبادل الأدوار استنادا إلى ما يتوفر لنا من قيم هزيلة ومبتذلة أو قيم يزدهر فيها الجمال والقبح بصورة واضحة..هذا تاريخ لم يعد خافيا وأستطيع أن أدونه لحظة بلحظة، وأفاجأ بالعفوية التي تميزنا والبراءة .. المواقف غير المعلنة وغير المتوقعة صرنا بألفها ونعيشها في ظل العلاقة غير المتكافئة ، لكن لكل منا مغامراته الخاصة وطريقته في التعامل مع الواقع ، على الرغم من نظرتي الدائمة بدونيته إلا انه لا يكف عن إبداء معرفته ، بما يديره من مناقشات صاخبة في مكتبة الحاج أمين في السياسة والعلم والأدب .. بكل فروع المعرفة ، وفضح مستودع أسرار عن الحب والجنس وكأنه يتحلل من نطاق مسؤوليات عظيمة يتجرد خاشع للعالم البعيد الذي يتعذر وصفه بالكلمات . لم أعد أكتم شعوري بالانبهار، فلم يعد غريبا أن يتحفنا بمعرفته عن كل شيء وأي شيء.. يتجلى وجهه عن خليط من الحزن الذي ترسمه تلك الابتسامة الغبية والغامضة.. فكرت أنه مجنون بالمعرفة . عيناه الجاحظتان تفصحان عن ركام، وجهه البرونزي الذي لوحته الشمس كثيراً. ولحيته القذرة وشاربه الذي يغطي شفته العليا تخفيان أباطيل سحر المعرفة .. إن الثقافة الأصلية وحدها التي سوغت القذارة عندي وعند الآخرين الذين عرفوه عن قرب .. وجدت نفسي مرغما على القناعة بأن كل تلك المجموعة من الخرق البالية والمظهر الدائم للرداءة ليست إلا متطلبات ساعات التسول التي تقتضيها الضرورة ، والتي تتيح له هوامش قليلة من الشفقة التي يقف الآخرون على حافتها كل التصورات غير المحددة تعشش في داخلي .. لا أعرف سوى تصورات هجينة عن الذين تخيم عليهم الغرابة وسوء الحظ ، يبقى في نفسي ذلك المظهر الخادع من التوقعات المدهشة ، كلما أريد أن أراه ، يتلاش اهتمامي بالآخرين .. ليست الصدفة هذه المرة هي الوحيدة التي جمعتني به .. إنها مجموعة عوامل الحدوس الشاذة والطارئة، رأيته في المكتبة ببدله نظيفة وقميص مخططا وربطة عنق حمراء ، يسهب في الحديث عن مواقع القوة والضعف في الحكايات العربية .. وحدها المعاني العظيمة والكبيرة التي لا تصبح مجرد كلمات مفخمة . بل إن امتلاكه تلك الظاهرة العجيبة في سرد وقائع وتفاصيل الحكايات بتلقائية مدهشة ، أثارة فيّ التشتت المطلق في القبض على أجزاء الحقائق الخاضعة لردود الأفعال المتسرعة .. قام وصافحني وظل يهز يدي .. لم يعد بمقدوري أن أخلص يدي ولم تعد لي القدرة على ملاحقة الأسئلة عن الصحة و الأحوال التي يتحتم عليّ أن استنبط إجاباتها ببديهة صادمة..أنا نفسي لم أطق روح المكابرة فيّ.. كنت أغمغم في انتظار النهاية .. لم يبد عليه الحرج ولم يند عنه أي تصرف مفتعل مع قناعتي بأن كل تصرفاته تنم عن جنون مسبق..دعاني إلى زيارته في الفندق .. كان يبدو عليه أنه منشغل جدا ..غادرا المكتبة وواصل خطواته بقامته المنحنية في الشارع الذاهب إلى رأس الجسر ..شعرت أن شيئا ما يتدفق في داخلي .. وساوس أو أفكار غير مكتملة للمناقشات البارعة والحجج الذكية حول تدوين الحكايات وسلسلة الوقائع واغاط روايتها .. علمت من الحاج أمين أنه استعان بجهات عديدة للإحاطة بكل ما يتعلق بالحكايات التي ولدتها الذاكرة النقية للبدو كما يصرح بذلك دائماً ويعتقد أنها الثمرة الطبيعية لحياة العرب في ترحلهم المستمر ويجزم أن كثيراً من الأحداث قد حدث في الواقع فعلا ويمكن أن يكون كل شيء فيها ممكن الحدوث .
- اعترف أنني قزم أمام معرفته الموسوعية. بكل ما يتعلق بتلك المعرفة.. حتى بجفون المعرفة الخارق للغاية .. بالحماس ذاته تقبلت في عقلي معظم آرائه وتعليقاته .. كان ذلك بمثابة درس عظيم في المعرفة التحليلية وذاكرتي المشوشة تقف عاجزة عن تفكيك ظاهرة المتسول المثقف بالمقارنة إلى الواقع المقلوب.. كانت تلك المصادفات العاثرة تنمق تاريخاً لم يعد مثمراً.. ملت بجسدي إلى الوراء في شعبة التفاتة فرأيته يعود ذاهلاً .. يهز رأسه ويضحك .. لم أتوقع عودته بهذه السرعة لكن توقعاتنا التي لا تنسجم مع كل توقع خاطئ تثير فينا الإحساس بكل الحقائق المقدسة ، على العكس من ذلك يصبح كل توقع خاطئ كذبة كبيرة تثير فينا الاشمئزاز والهلع .. وقف في داخل المكتبة كأنه يلتقط أنفاسه ، رفع حاجبيه وارتسمت على وجهه ملامح الصراحة .. اقترب برأسه من أذني ودعاني للذهاب معه .. قادني من يدي .. بيده الأخرى كان يحمل كيسا فيه قنينة خمر.. سرنا بضع خطوات خارج المكتبة صامتين وطلب مني سيجارة .. افرد أصبعيه أمام وجهي .. أعطيته علبة سجائر.. سحب واحدة منها وأشعلها تطلع حواليه وجذب نفسا عميقا، والتفت نحوي .
قال لي : لا أحب هذه السجائر .. سادت فترة صمت .. صمت عميق مدمر يصعب التنبؤ بنهايته .. تحدث وحده فتكلم عن الحكاية الأسطورة وسمعته يقول لي بوضوح لقد قدمت بحثا عن تاريخ الحكاية العربية إلى جامعة كمبردج . فسألته مندهشا : درست في كمبردج . ضربت بكفه على صدره .. ألا ترى هذه البذلة وهذا الحذاء .. لم أكن أخشى اتهامه بالجنون .. نظرت إلى حذائه المحمل بالطين الجاف .. قال : إنها من انجلترا .. ألقى بعقب السيجارة بعد أن أخذ نفسا أخيراً .. كان يركز نظراته إلى الأرض . قال إن الدرس في كمبرج يشبه العيش في الجنة المرسومة في داخل كل واحد منا .. لم أشأ النظر إلى وجهه .. تكلم عن الممارسات الجنسية غير الشرعية في ألف ليلة وليلة وأعلن عن حقيقة تاريخية غريبة حول فاعلية الجنس في صناعة التاريخ .. وجدت نفسي في مأزق حقيقي بعد أن تركني وصعد درجات الفندق قفزا .. لقد ظللني بالمخادعة وخجلت .. رأيته يبتسم في أعلى الدرج وأومأ لي بالصعود .. أعتقد أن عاصفة من الأفكار المشرقة لا يمكن لها أن توقف إرهاصات رجل مجنون.. وأشار لي بالدخول إلى الغرفة المجاورة للدرج .. لست أدري إن كان هو الذي أغلق الباب خلفي واجهل النشوة التي يمكن أن يتمتع بها في هذه الغرفة المظلمة.. جلست على سريره القذر وشممت رائحة المكان الزنخة .. يمكن أن تكون رائحة السرير نفسه .. ثنى ركبته على الأرض أمام مجموعة من الكتب المرمية بإهمال على الأرض وسحب كتابا مجلدا لمخطوطة قديمة .. قلب الفصول الأولى وقرأ بانجليزية طلقة بذلك الهاجس المبهم توقعت أن يحدثني عن تاريخه.. لا أظن انه يحب الخداع أو الكذب.. أنهى قراءته فتكلم عن تأثير الحكاية العربية على الكتابات الأدبية الحديثة في أوربا وأمريكا اللاتينية، وخلق النموذج المتقدم للرواية الحديثة.. كان أستاذي المختص بالدراسات الشرقية يهوديا متطرفاً وكان في اغلب الأحيان يشكك في تاريخ الشرق.. فيما يتعلق بالعقل خاصة.. لقد احتفظت بهذه النسخة بعد أن طردتني السلطات البريطانية بحجة الإرهاب الفكري.. غاب عني صوته وبدأ يبكي ويفرك عينيه مثل طفل.. كي أتخلص من الحرج.. تركته يبكي بنشيج مر وغادرت الفندق بخيبة أمل كبيرة.. لقد أصبح تاريخاً .. لا أنسى الأيام التي تصبح مجرد ذكرى ولا الذكريات التي تحفر في الذاكرة بعمق على الرغم مما افتقده من الصدق العاطفي الذي لم يعد يضيف أي متعة .. قبل أن يوشك نهار اليوم التالي على الانقضاء سمعت بنبأ موته..لم أجد صعوبة في الإحاطة بتفاصيل موته ، ولكن الميتات الغريبة تدفعنا لاكتناز الأسئلة مما تفرزه المشاعر من الشفقة .. وجد ميتا وعلى الأرض قنينتا عرق في مظلة انتظار الحافلات قرب السوق المركزي.. شعوري بالذنب جعلني تحت رحمة الوهن ..إنها غلطتي .. لم يكن بمقدوري كبت الدموع ولا مواساة نفسي .. سرت فكرة في داخلي للذهاب إلى مكان موته وأنا أفكر في صورة الموت بهذه الطريقة.. رأيت مصطبة الانتظار التي نام فوقها أو مات فوقها في الليلة الماضية .. لا فرق ..أصابني الذهول .. لم يعد بمقدوري تأويل الحقائق، فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي نواجهها لوحدنا . داهمني شعور خفي كاليقين براحته.. فالموت فوق مصطبة الانتظار خير من الموت في غرفة مقفلة ..

ليست هناك تعليقات: