2008/04/12

هاشم رشاد آقصو

ديمة محنية في سماء الشعر التركماني
كتابة : أنور حسن موسى

أريد أن أكون في بلادي مفهوماً
وعندما لا يفهمني أحد
سيان
أنا في بلادي بالذات
على الهامش أمرُّ
كما تمرّ ديمة محنية
(الشاعر ماياكوفسكي)

هذه أبيات للشاعر ماياكوفسكي يطالبنا فيها بفهمه، وهو بنفس الوقت لا يعير أي اهتمام لذلك لأنه يعترف بأنه سيمر على الهامش كما تمر سحابة محنية.. فهل يا ترى مرَّ الشاعر الراحل هاشم رشاد آقصو على الهامش في بلادنا ؟ وهل يا ترى مرت مجموعته الشعرية الأولى والأخيرة (في إطار الإنسانية) كديمة محنية في سماء الشعر التركماني ؟!
قلما تضاربت الآراء حول شخصية شاعر وفنان مثلما تضاربت حول الشاعر هاشم رشاد آقصو، فلقد كان حقاً شخصية غريبة الأطوار، فتراه تارة قريبا من القلب لدرجة أنك حين تجالسه أو تجاذبه الحديث في الأدب والفن والسياسة لا تمل من حديثه، ولا تستطيع الفكاك من سحر كلامه، وتارة تراه بغيضاً إلى درجة تلعن نفسك ألف مرة لأنك رضيت بمسامرته، وهدرت وقتك في مجالسته، وتراه أحيانا كريماً لا حدود لسخائه، وتراه أحيانا بخيلاً حتى على نفسه .. يهجر الكتابة عاماً ويعود إليها ليكتب في يوم واحد ما يعجز عن كتابته الآخرون خلال عام ، و إلى جانب كتابته للشعر كان فنانا مسرحياً ، وكاتب كلمات أغاني من الطراز الأول.
حدثني زميلي الشاعر جودت قاضى أوغلو أنه عرض على أحد المطربين مجموعة من أغاني الشاعر بناء على طلبه فحار في اختيار أغنية واحدة منها لأنه لم يستطع تفضيل واحدة على أخرى فكانت كلها على حدّ تعبيره جميلة و رائعة.
لقد اتهمني أحد الأصدقاء يوماً بأني حين أكتب عن شاعر ما أركز على حياته أكثر من التركيز على شعره، واني أعترف بذلك فقلما تجد شاعراً لا يتأثر شعره بحياته ، لكن مع ذلك كتبت عن شعراء لا يخضعون لهذا المعيار .. وأقول هنا عن الشاعر هاشم رشاد آقصو فهو في شعره يختلف عن شخصه ، يحاول في شعره أن يدفع بالواقع إلى مستوى يليق بالإنسان بحسّ مرتبط برسالة العدل وتحرير الإنسان ، فلا يهمني بعد هذا إن هو فعل ذلك مع نفسه أم لا.. إن قصائده الغنائية مفرطة الحساسية الذاتية أو مفرطة الذوبان في رصد الظواهر، وهي ناتجة عن تأثره الحاد بحياته المضطربة، فمجموعته التي تضم إحدى وخمسين قصيدة، ثمان وثلاثون منها من الشعر الحر، وثلاث عشرة قصيدة على النمط الكلاسيكي تجمع بين العمق والمباشرة، وبين البساطة والتعقيد كما يقول عنه الناقد التركماني هاني صاحب حسن في كتابه (أزهار القرنفل) وهو أي الشاعر والكلام ما زال للناقد المذكور يمزج في أسلوبه التعبيري الغنائي بين الواقع الاجتماعي، وبين توجهه الاشتراكي، وهو حين يطالبنا في قصيدته (ما المدينة؟) وهي قصيدة لا تشكل بعداً فنيا يرقى إلى مستوى الشعر الحديث أكثر مما تحققه قصيدة شعبية في هذا المجال بعدم الاكتراث بالملبس والمال والعبيد والنساء فهو ينطلق من معادلة صعبة جداً .. معادلة يفشل في تحقيق التكافؤ بين شطريها ، وإني أراه صادقاً في دعواه ، وفي تصوير خلجاته أدق تصوير ، فهاشم الإنسان يعاني من عقدة الحضارة التي تشربت روحه المضطربة منها من خلال مطالعاته وملاحظاته اليومية ، تلك الروح المتعلقة بمباهج الحياة، والتي تمثل إيغالاً بالأنانية وحب الذات وهو في قصيدته (نصائح الجشعين) يقول في أحد مقاطعها:
( صه يا بني
لا تفرط بمالك
إن أباك فداء هذا المال
فريضة أن تسجد للغني
أما السنن فلا تكترث بها)
يريد أن يقول لنا أنه يقاوم إغراء المال له لأنه لا يستطيع التخلص من سطوته .. صحيح إن مزاج الشاعر الشخصي كان سبباً في كثير من التقولات التي أثيرت تجاهه لكن هناك كثير من الشعراء والفنانين الكبار أمثال : ماياكوفسكي، رامبو ، جوجان وكوخ وقفت أمزجتهم الشخصية عقبة في طريقهم إلا أنهم واصلوا إبداعاتهم متحدين أقدارهم لأنهم ساروا على طريق الثورة والإنسانية، وهم سواء ماتوا بالمرض أو سكتت قلوبهم بطلقة نارية فقد أنجزوا مهماتهم بنجاح .. والشاعر كان لو قدر له أن يعيش أكثر مما عاش لما كان أقل منهم عظمة، ولكن موته المبكر قضى نهائيا على هذا الاحتمال. ولا أخفي ما سببه موته المفاجئ من قلق وحيرة لأنني كنت أحد أقرب أصدقائه ، فما زلت أجهل سره . وأغلب الظن أنه دفع ثمن أخطاء غيره ، فآثر الانسحاب تاركاً لغيره أن يتقول على موته مثلما كانت حياته مادةً للتقولات في أغلب الأحيان. وعلى الرغم مما حفلت به نفس الشاعر من تناقضات فهو يعد من طليعة الشعراء التقدميين ومن أكثرهم استحواذاً على قلوب الناس لأن أشعاره وأغانيه ومسرحياته ذات النزعة الإنسانية التقدمية التي اعتمدت السهل الممتنع وضعت المتلقي في خضم الحياة الاجتماعية ، وان قصائده الوجدانية والسياسية التي اتسمت بطابع غنائي مفرط ساهمت هي الأخرى بشد عواطف الناس إليه، لأنه بواسطتها عرف كيف يشق طريقاً سهلاً إلى قلوبهم المتعطشة للحرية .
انظر إليه في قصيدة (قطرة المطر) كيف يدين شريعة الغاب ويشير بأصابع الاتهام إلى أولئك الذين ينصبون عروشهم على أشلاء الآخرين فيقول :
لن أحلق
مثل نسر جارح
لإفتراس طيور اليمام
لن أعلو مثل خيال بشع
لا يخلف غير السراب
إن ارتفعت
فسوف أغدو مثل بخار
يتساقط مطراً
على تراب اليمامات
التي تعشق الحياة والربيع والحب.
ثم يتصاعد الحس الإنساني في نبرته ويبلغ ذروة الانفعال في قصيدة (أحب كالإنسان) :
أنا إنسان
أهب قلبي طوعاً
لمن يحب الإنسانية
أنا إنسان أحب مثل باقي الناس.
انه يبحث عمن يفهمه وسط عالم يضج بالأنانية وحب الذات فيقول في قصيدة (عالم الحب) :
فقط أنت
تفهمين أغنية ربيعي
لأنني واحدة
من تلك الباقة الجميلة
من أزهار شقائق النعمان
المزهرة في قلبك.
ما أروعه حين يرى قلب الحبيبة يضم باقة من أزهار شقائق النعمان، ومع ذلك لا يريد الاستحواذ عليها كاملة بل يكتفي بزهرة من تلك الباقة حتى لا يحولها إلى أمة مستعبدة.. يكفيه أن يحتل حيزاً من ذلك القلب حتى يكون التواصل ممكناً بينهما:
أنت
أيضا أنت
تفهمين أسرار قلبي
لأنني قطرة من بحار الحب
التي تغمر قلبك.

ليست هناك تعليقات: