2008/04/15

مشوار بندر اوغلو ..


مسافة ما بين الصرخة والألم


كتابة : تحسين ياسين

منذ سنين قادتني يد الأقدار إلى التعرف على الأديب والكاتب المعروف (عبداللطيف بندر أوغلو) حدث ذلك في سنيني العجاف التي لم تكتف بأكل بقراتي السمان وسنبلاتي الخضر بل أكلت الناس والضمائر والذمم وكل شئ ، إلا ما رحم ربي .. وما بقي من زادنا الشعري إلا قليلا. ولعل ما يميز هذا الأديب أنه بحجم الزمان وهذا الزمن قد أنبت لنا شعراء وأدباء يخيل لك وأنت تنظر إليه وتتأمل قسمات وجهه وتستمع إلى كلماته أن هذا الرجل يحمل الدنيا كلها على كتفيه مثلما يحمل (سيزيف) صخرته. وهو الذي يحمل منذ أمد بعيد هموم وتطلعات الأدب التركماني العراقي. وإذا شئنا الحديث عن شعره فلا بد من القول أنه من الصعوبة أن تفصل بين شعره وكلامه العادي ومظهره البسيط والحزن الماثل على وجهه والعاطفة الجياشة التي تتفجر من فمه باختصار انه قصيدة جميلة من لحم ودم متمثلة في كمال شخصيته، أما أفكاره فإنها كأسراب الطيور المهاجرة التي لا تعترف الدول الخاصة بالحدود وحقوق السيادة. والشعر عنده كائن حي له روح وهو يتنفس ويتألم ويشعر ويفرح ، لا مجرد كلمات خرساء ترقد على صفحات صماء. ثم ان جانب آخر في شعر هذا المبدع يتمثل في تلك المعاني والثروة الهائلة من الرموز التاريخية والفلسفية والفولكلورية التي تنتمي إلى ثقافات متباينة وعصور مختلفة والتي استطاع الشاعر أن يصهرها في بوتقة خياله الفذ ويحولها إلى قصائد تطير كالفراشات والحمائم البيضاء .. وكما طارت روحه إلى أبعد مدى حيث تخوم الكون ، وهكذا رحل مثلما ترحل السنونوات إلى خط الاستواء حيث حقول البن الدافئة حاملاً آلامه وسنيه المتعبة كصرة عاشق أبدي على كتفيه ليرحل بصمت و وقار إلى مدن الرخاء البيضاء والعالم السرمدي الذي ينتظره. وهكذا قد خلد أديبنا الرائع .إنه حقاً خريف الشعر هذه السنين حيث تتساقط وريقات سنين شعرائنا وما أكثر الذين ودعناهم هذه الأيام. أما نحن الباقون فباتت مشاعرنا لفقدهم كالزرازير المنتشرة على أسلاك الرحيل والممتدة إلى مملكة الحزن البطيء ، ولكن ستبقى عروقهم تتجذر يوما بعد يوم في الضمير الإنساني وستبقى (الصرخة والجرح) و ( مدية تخترق كبد الزمان) و ( الألم لي، لك الأمل والعواصف للجميع) و(نجوم منطلقة من البراكين)وغيرها من أعماله الأخرى والكثيرة وفي شتى المجالات الثقافية ستبقى هذه الأعمال قناديل تضيء دروب مدن القصائد.
هذا الرائع الذي احتفظ بالألم لنفسه و وزع الأمل للآخرين وحذر الجميع من العواصف لأن له باع طويل في مصارعة الأعاصير، واستطاع أن يشرب تلك العواصف، لذلك نجده في كل مرة يوزع الأغاني على ألسنة الأطفال ، لأنه يؤمن أنهم سوف يداعبون الغيوم يوما ما بنظراتهم ويغازلون الرعود.
أنت أيها الواثق و الواقف خارج مدار الوقت فعقارب ساعاتنا قد خرجت هي الأخرى عن مداراتها كي تودع لحظتك التي اغتالها هذا الزمن الذي يجري خلف ساعة (بك بن). وكم مرة اخترقت المدية كبد زمانك ! لذا ألغى كبده الذي أزعجه يوماً وقد مارس الزمن مثل هذه الإزعاجات في جسده بعشرة مرات ونيف .. وفي كل مرةٍ كان الموت يخطو أمام أنفه في رواح وغدو مثل ريح تتحين فرصة لتخطف شيئاً منه، إلا أنه كان مؤمناً بفكرة الخلاق حينها ( ثارت براكينه لتنطلق منها نجوم) لتملأ سماء الأدب التركماني إشعاعا وضياءً ولم يتعب يوماً ولم تقف براكينه عن الثورة، وظل يبحث في أتون الجمرات حتى أوجد منها شمساً وقطر فوهتها بقدر عدسة التقطت لنا آلاف الصور الحارة، ومن عرق جبينه طوفانا ، ومضى هكذا بثقة رهيبة خلف الصوت كمهرة تبحث عن صهيل رأسها، فوجد الهمسة فخلق منها (الصرخة والجرح) فاكتشف عقاراً جديدا للقصيدة التي أصابها داء النسيان في أحيان كثيرة، واستطاع أن يعرف هموم جميع العيون التي انخدعت بالسراب.
عرف وأيقن أن الليل الطويل الذي يسدل ستائره على وجه الصباح سوف يتمزق مثل رداء أخفت عيوبه الرقعات، فكان يقظاً بأفكاره وبرموزه الشعرية ، وهذا ما نراه في قصيدته الرائعة هذه :
همومي
مثل اتساع مدى العين
تحيطني الهموم
همومي هموم فقراء العالم
وقلقي على الأسماك الصغيرة
كي لا تكون طعما للكبار.
وقلقي على الأغاني
على ألسنة الأطفال
وهمومي مثل صهيل الجياد
الساقطة في العواصف.
.. وهكذا مد يديه صوب أيدي الحرية المتعلقة في الفراغ ، وأمامه الرعب يصفق بجناحيه ، فالرجفة كانت في الظلمة والضياء في الآمال ، وظل ينفخ بالجمرة التي خمدت فوق الشفاه حتى أضرم النار بكل قلب خاب جريان الدم فيه ، ولم تكن النصوص التي كتبها في الفترة الأخيرة من عمره سوى أنين الزمن في أعماق ذاته.

ليست هناك تعليقات: